الخلق الحسن وقصة الخط الرديء قصة تربوية للاطفال والناشئة
مع قصة جديدة من قصص مكارم الاخلاق وقصة اليوم بعنوان الخط الرديء وهي قصة تربوية عن الخلق الحسن نتمنى أن تنال رضاكم.
الخلق الحسن وقصة الخط الرديء
أخرج جمال قلمه ودفتره من حقيبته ثم رفع رأسه ونظر إلى السبورة، فقرأ الرباعيات الثلاث التي كتبها معلمه، كان زملاؤه قد كتبوا البيت الأول منذ وقت طويل، قرأ جمال الشعر بتأن ثم أغمض عينيه وأخذ يردّده عن ظهر قلب، حفظ جمال الشعر المكتوب على السبورة بعد أن قرأه مرتين فقط، نظر إلى أصدقائه خلسة، كانوا جميعًا منشغلين بالكتابة بهمة ونشاط، فتمتم جمال مبتسما :
– الآن لحقت بكم.
كان التلاميذ يضيعون الوقت بين النظر إلى السبورة والنظر إلى الكراسات، أما جمال فكان يكتب دون أن يرفع رأسه، فأنهى كتابة الشعر في وقت قصير، وقال مسرورا :
– لقد انتهيت يا أستاذي.
فقام السيد سليم من مقعده ثم تقدم ونظر إلى دفتر جمال، وسرعان ما توارت عن وجهه الابتسامة، وقال بصوت متهدج:
– أحسنت يا جمال شعر جميل كهذا يكتب بخط قبيح كهذا، هل تَعِي ما تفعل؟
إنك تستهين بالكتابة والورق وبالقلم والشعر، صحیح أن خط المبتدئ رديء إلا أنه مقارنة بخطك يُعد فنا رائعًا، أنت ستنهي الصف الخامس هذا العام، وأنا كدت أتوسل إليك منذ الصف الثاني من أجل هذا الأمر، اهتم بِخَطِكَ يا جمال. رفع تلاميذ الصف رؤوسهم ناظرين إلى جمال بصمت، عاد السيد سليم ثم جلس في مكانه ووضع يديه على المكتب ونظر إلى جمال نظرة منكسرة حزينة، ثم تابع حديثه وهو يمرر نظره في الفصل بأكمله ويقول:
– بدأت عصور التاريخ بالكتابة فهي أهم إبداع لدى البشر، أنتم أيضًا بشر، فلا بد أن تهتموا بها أيضًا، إذ إن تلاميذ رائعين مثلكم لا بد أن يكون خطهم رائعًا أيضًا، كل سلوكياتكم حسنة، أنتم أيضًا رائعون، انظروا لهذا الشعر فهو يقص جمال الطبيعة، ولا تنسوا أن الله جميل يحب الجمال، فرجاءً أناشدكم الله أن يكون خطكم أيضًا جميلًا كباقي مهاراتكم.
صمت السيد سليم برهة، ثم طلب من جمال أن يأتي إلى جواره، كان الطلاب ينظرون بفضول قام جمال من مقعده على مضض منه، تقدم نحو مكتب معلمه بخطوات ثقيلة، فالتفت السيد سليم إلى الطلاب وقال:
– أيها الأطفال استمروا أنتم في الكتابة، فمال بعض التلاميذ برؤوسهم وأخذوا يهتمون بعملهم.
كان جمال قد تلقى تنبيهات كثيرة في موضوع الكتابة، غير أنه لم يبال بأي منها، في أغلب الأحيان لم يكن ينقل المكتوب على السبورة إلى دفتره، وإن فعل ذلك لم يستطع هو أن يقرأ ما كتبه، فقد كان يؤدي واجباته بإهمال ولا يكترث بأن تكون الحروف مقروءة واضحة وعندما يضيف عجلته إلى هذا الإهمال يصير خطه بعيدا كل البعد عن الكتابة، فتغدو صفحات الدفتر الناصعة البياض عندما يملؤها كأن مكنسة عبرت من فوقها؛ وعندما يجتمع جمال بأصدقائه أحيانًا تكون حاله هذه هي موضوع الحديث، فيمط جمال شفتيه احتقارًا ويقول مدافعًا عن نفسه:
– الكتابة ليست إلا تضييعا للوقت، كما أنكم تعلمون أني أذكى تلاميذ الفصل، وأعلى النقاط تكون من نصيبي، فهل تتخيلون أن أتفوق عليكم لو أن لجمال الكتابة كل هذه الأهمية؟
فأنا أستمع إلى الدرس أثناء إلقائه، وأسجل ما يقوله معلمي في عقلي وليس في الكراس فلا أنساه ثانيةً، وعندما أذاكر في المنزل أستخدم ذاكرتي بدلا من الكراس.
كان جمال دائما حتى ذلك اليوم يقول مثل هذه الكلمات ومهما ذمّ أصدقاؤه خطه لا يمكنهم أن يقولوا شيئًا عن تفوقه، تُرى كيف يتمكن المرء من أن يكون ناجحا هكذا إذا كانت الكتابة لا تروقه، وخطه أقبح ما يكون.
وقف جمال بجانب أستاذه السيد سليم، فأشار إليه برأسه لكي يقترب قليلاً، فاقترب جمال من المكتب ثم مال قليلاً.
كان ثمة طلاب يختلسون النظر إليهما، همس السيد سليم في أذن جمال بصوت لا يستطيع زملاؤه سماعه، وفجأةً تبدلت تعبيرات وجه جمال واتسعت عيناه ، ثم عاد ببطء وجلس في مقعده وأصاب التلاميذ الفضول عندما لاحظوا التغيير الذي ظهر على وجه جمال، فسأله زميله في الصف عما دار بصوت خفيض، فأجاب جمال بعيون جامدة دون أن يلتفت قائلاً:
– أبدا، ليس هناك شيء.
أسند رأسه إلى المقعد وعقد يديه فوقه، وظل هكذا متجمدا بلا حركة، تعجب الطلبة جميعًا ولسان حالهم يسأل:
– أيبكي جمال ؟
تُرى ما الذي قاله المعلم وجعله يتأثر كلّ هذا التأثر؟
كان جمال لا يسمع حتى همسات زملائه، أغمض عينيه وصعد مباشرة إلى سماء الخيال التي لا حدود لها ولا نهاية؛ فتخيل أنه يدرس في الفرقة الأخيرة في كلية الطب، وأنه صار من جديد من أوائل الكلية باجتهاده وإنصاته في المحاضرة وبأبحاثه، فهو يسجل ما يراه مهما في الدفتر أمامه عندما يشرح الأساتذة الدرس، وصار خطه أكثر سوءًا وهو يحاول تسجيل أقوال الأساتذة، حتى إنه كان لا يستطيع قراءة خطه، وأخيرًا أنهى دراسته وحصل على شهادته.
بدأ وظيفته الأولى في إحدى جزر إيجا)، وذهب إلى هناك بسعادة وسرور، وسرعان ما انسجم مع أهل الجزيرة، فأحبوه كثيراً، إن آلامتهم رؤوسهم يتجهون إلى د. جمال صباح مساء، وكان جمال يستقبلهم دائمًا استقبالًا حسنًا.
ذات صباح طرق بابه قبل طلوع النهار، كان القادم رجلًا مسنًا، يحمل في حضنه طفلا يتراوح عمره بين السادسة والسابعة، فقال جمال:
– خیر یا خال سیف الدین ماذا جرى لكمال؟
فأشار الخال سيف الدين بأعين دامعة إلى الطفل الذي يحتضنه وقال:
– حفيدي ، حفيدي يموت يا دكتور!
افعل شيئًا أرجوك.
أسرع جمال وضم الطفل إلى صدره، ومن فوره نقله إلى الداخل ثم فحصه، ثمّ اعتدل الطفل لما استعاد أنفاسه وجلس، فعاد جمال إلى الخال سيف الدين وقال:
– حسنًا ليس هناك داع للقلق بعد، والآن سأكتب له دواء، هذا الدواء تجده في صيدلية السيد عثمان، اذهب واشتره وأعطه منه صباحًا ومساءً على ثلاثة أيام، ثم ائت به للاستشارة.
أخذ الخال سيف الدين وصفة الدواء وهو يدعو ثم احتضن حفيده وخرج، وفي اليوم التالي بينما كان جمال يتناول غداءه إذ سمع صيحة قادمة من الخارج.
– أدركني يا جمال!
أدركني، كمال يموت.
قفز الدكتور جمال تاركًا اللقمة التي في يده، وقابل الخال سيف الدين عند عتبة الباب كان الرجل في حالة يرثى لها، فقال جمال:
– ماذا حدث، ماذا بك يا خالي؟
– يا جمال أسرع! أرجوك أنقذ حفيدي.
– عاد جمال وانتزع حقيبته، وأخذ يركض مع الخال سيف الدين فقال الخال سيف الدين :
– جلبت الدواء الذي كتبته إلا أن الطفل أصبح غريـب الأطوار بعد أن تناوله أول مرة، ثم أعطيناه الدواء ثانية في المساء فغدا أكثر غرابة، وأضحى يتنفس بصعوبة، وهذا الصباح تناول الدواء من جديد فظل يتلوى من الألم حتى فترة الظهيرة، أنقذ حفيدي يا جمال !
عندما وصلا إلى المنزل كان كمال يرقد مغشيا عليه، وكانت والدته تجلس قرب ولدها وهي غارقة في دموعها، وضع جمال يده على جبين الطفل وقال:
– حرارته مرتفعة جدا، هيا بسرعة انزعوا عنه ملابسه.
فبادر الخال سيف الدين والسيدة زينب ليجردوه من ملابسه عندئذ كان جمال يقلب في حقيبته وإذا به يلمح الدواء على المنضدة الصغيرة، فالتفت إليه بقلق واضطراب وقال :
– من يستخدم هذا الدواء يا خال سيف الدين؟
كان الخال سيف الدين منشغلا بنزع ملابس حفيده، فقال:
– هو الدواء الذي كتبته لكمال.
ارتعد جمال فزعًا، وهرع نحو الدواء ثم التقطه بيده وقال:
– لا، هذا ليس الدواء الذي كتبته، أين وصفة الدواء؟
– ركضت والدته وجلبت الوصفة، فرمقها جمال بنظرة سريعة وقال:
– ليس هذا هو الدواء المكتوب في الوصفة يا خال سيف الدين، من أعطاك إياه؟
فاقترب الخال سيف الدين منه بقلق واضطراب وقال :
– يا بني أنت كتبته صباح أمس، لم يكن عثمان في الصيدلية فأعطيت الوصفة لمساعده، وطلبت منه الدواء المكتوب فيها، فوجد صعوبة في قراءتها ثم مط شفتيه وقال: «والله يا خال سيف الدين ما استطعت أن أقرأ هذا الخط فقلت له: يا ولدي هذا جدًّا، حفيدي في خطر»، فأعطاني الدواء قائلاً «المقروء هنا فقط الحرف الأول والأخير، هذا هو الدواء على ما يبدو» ؛ غير أنه أرادني أن أستشيرك مرة أخرى، فأخبرته أنه لا وقت لدي ضروري ثم ذهبت إلى المنزل مباشرة وأعطيتُ هذا الدواء للطفل.
کاد جمال يتجمد في مکانه فصاح قائلا:
– رباه !
وبادر إلى هاتفه المحمول وطلب مستشفى المدينة التي تقع في الضفة المقابلة، وخلال دقائق جاءت طائرة الإسعاف، وبينما موظفو الإسعاف ينقلون كمالا إلى السيارة، نظر جمال إلى وصفة الدواء التي في يديه المرتجفتين، ثم أقلعت الطائرة، وجلس جمال بقرب كمال وهو يدعو لهذا الطفل الصغير الذي يرقد أمامه مغشيا عليه ويقول:
– اللهم اشفه وعافه ولا تؤاخذني بمثل هذا الذنب الكبير،ربي أتضرع إليك أن تشفيه.
لدى وصولهم المشفى أخذوا كمالا في الحال إلى الداخل، وهناك بذل طبيبان جهداً كبيراً لكي يبقى كمال على قيد الحياة، مرت الساعات وأخيراً سُمع صوت أحد الطبيبين وهو يقول:
– الحمد الله، لقد نجا.
عندئذ تنفس جمال الصعداء، ثم أسلم جبينه للحائط، وهو يهمس بالرباعيات الثلاث التي حفظها في الصف قبل سنوات. ثم ترددت في بالهِ الجُمل التي همس بها معلمه السيد سليم ذلك اليوم عندما قال له السيد سليم:
– ليتك لم تكن ذكيًا إلى هذا الحد يا جمال، عندها ما كنت لأقلق عليك، أعلم أنك يوماً ما ستدرس وتصبح رجلاً عظيمًا، غير أني أخشى أن يحدث شيء بسبب خطك القبيح هذا، أسأل الله أن لا تمس الآخرين بسوء، والآن
أريدك أن تفعل شيئًا لأجلي، لو سمحت عندما تجلس في مقعدك تخيل ما قلته لك، تخيل أنك يوما ما كبرت وصرت طبيبًا، وتم تعيينك في الجزيرة المقابلة، وأنا رجل مسن جاهل بالقراءة والكتابة أعيش في هذه الجزيرة، ثم مرض حفيدي وأتيت به إليك، فكتبت أنت له وصفة الدواء، إلا أن الصيدلي لم يستطع قراءة خطك فأعطاني الدواء الذي ظن أنه هو نظرًا لأن الوضع ضروري، ثم تخيل أنت ما سيحدث بعد ذلك، ونتقابل في نهاية الدرس، ما رأيك؟
تکدر جمـال عـنـدمـا تذكر تلك الكلمات وجثم أرضًا، فجاء أحد الأطباء ورَبَتَ على ذراعه وسأله قائلاً:
خير يا جمال أمريض أنت ؟
فقال جمال:
لا، أنا متعب قليلا فقط.
ثم ناداه الأطباء عندما خرجوا قائلين:
– حسبك، لقد زال الخطر، لا تقلق من أجل الطفل، فمثل
هذه الأخطاء تحدث في العام الأول من ممارسة المهنة، بعد ذلك كن أكثر حذرًا، هيا ننزل ونشرب شاى.
أشار جمال برأسه موافقا وهو يتمتم بصوت لا يسمعه إلا هو قائلا:
– بدأ التاريخ بخط قبيح، واليوم يوشك أن ينتهي تاريخ أحدهم بسبب الخط القبيح ، اللهم هبني قدرة على تحسين خطي.
ثم قام ولحق بالأطباء، وبينما هو سائر أخـذ يهمس ثانية بالجملة التي سمعها ذلك اليوم من معلمه السيد سليم ويقول:
– إن الله جميل يحب الجمال.
عندئذ اقترب منه شخص وقال له بصوت لين:
– يا جمال هل نفذت ما قلته لك؟
رفع جمال رأسه وهو غارق في خياله، فرأى وجه السيد سليم وهو ينظر إليه مبتسمًا ، نظر حوله فإذا هو في الصف يجلس في مقعده، ولم يبق أحد من زملائه في المقاعد الأخرى، فقال السيد سليم بصوت ناعم:
– دق الجرس، فخرج أصدقاؤك وهم ينظرون إليك حيارى، يبدو أننـي لـو لـم أقاطعك لبقيت غارقًا في خيالك حتى المساء هيّا أخبرني ماذا حدث في الجزيرة، وإلى أي مقبرة أرسلت حفيدي؟
أخذ جمال نفسًا عميقًا ثم نظر إلى الشعر الذي سود به دفتره قبل ربع ساعة، حاول أن يقرأ خطه فلم يستطع، ولم تمنعه رداءة خطه وقبحه من القراءة هذه المرّة، بل دموعه التي ملأت عينيه، فاستقام واقفا على قدميه والتقى نظره بمعلمه وعندئذ قال بصوت متهدج :
– لا تقلق يا أستاذي لقد نجا حفيدك، إن شاء الله بفضلك سوف ينجو أحفاد كثيرون، وها أنا أعدك ، يوما ما سأكون طبيبًا، ومن سيرون وصفات الدواء التي سأكتبها لن يكون في وسعهم إلا أن يثنوا على جمال خطي ومهارتي الطبية، بدءًا من هذه اللحظة أعاهدك أنني سأهتم بالكتابة، وإني لن أفعل ذلك من أجلي بل من أجل أولئك الأطفال المرضى، عانق السيد سليم جمالا بحب وحنان وتأثر كثيرًا، وربّت بلطف على رأس ذلك الطالب المتفوق قائلًا:
– أعلم، أعلم أن هذا الخط القبيح لن يكون مستوى تلميذ متميز مثلك، والآن أحسب أن توسلاتي التي استمرت أربعة أعوام لم تذهب سُدى، أحسنت يا دكتور جمال!