زيد بن حارثة رضى الله عنه شهيد مؤته
ما أنا بالذي يختار عليك أحدا ، أنت الأب ، والمعلم..
كانت عادة التبني من العادات المنتشرة بين العرب في الجاهلية .
وهذا يعني أن الشخص ينسب إليه ولدا من غير أبنائه فيعطيه اسمه ، كما يعطيه الحق في أن يرثه ..
وكان هذا لا شك تعبيرا عن اعتزاز هذا الشخص يمن تبناه ، وضمه إلى أسرته دون وجود رابطة دم بينهما .
كان لابد من هذه المقدمة قبل أن نتعرف على واحد من أحب صحابة رسول الله إلى قلبه .. حتى أنهم أطلقوا عليه اسم حب رسول الله..
وهو زید بن حارثة، الذي لازم الرسول منذ كان صبيا صغيرا ..
فمن هو زید بن حارثة ؟
كان زيد ابنا سعيدا يعيش في كنف أبوين يحبانه ويرعيانه إلى أن تعرضت ديارهم لغارة إحدى القبائل المعادية التي انتزعت الصغير من حضن والديه، وأسرته ضمن من أسرت من الغلمان ، ثم باعتهم رقيقا في سوق العبيد .
ويشاء الحظ أن يقع اختيار حكيم بن حزام على هذا الغلام القصير الأسمر ذي الأنف الأفطس فيشتريه ، ثم يهبه لعمته خديجة بنت خویلد.
وينفتح قلب المرأة العظيمة لهذا الغلام الذي تشع عيناه ذكاء ، وفطنة ، وتخصه برعاية وحب خاص ، ثم يتضح لها مع الأيام قدر أمانته، وإخلاصه، فتهبه بدورها لزوجها الأمين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب .
وما إن يرى محمد هذا الغلام إلا ويشعر نحوه بالحب والتقدير ، فيعتقه فورا .
وعاش زيد في كنف محمد، وتظهر الأيام نقاء معدنه ، وذكاءه ، وإخلاصه ، وصدقه، وأمانته ، ويزداد محمد تعلقا به ، ويضاعف رعايته له ، وعطفه عليه ..
زيد بن حارثة اختار النبي
والتقى بعض من أهل زید به في أحد مواسم الحج، ويعرفون أنه ابن حارثة الذي فقده أبواه منذ سنوات .. فوصفوا له كيف يتعذب والده لفراقه .. فحملهم زید سلامه ، وشوقه لوالديه ، وكل عشيرته ، كما حملهم رسالة خاصة لوالده يقول فيها : أخبروا أبي أني هنا مع أكرم والد ..
ويطير قلب الوالد حارثة فرحا بهذه الأخبار التي وصلته عن ابنه زید، ويشد الرحال ومعه شقيقه إلى مكة، ويلتقيان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقال له حارثة : يا بن عبد المطلب .. يا بن هاشم .. يا بن سيد قومه ، أنتم أهل حرم الله وجيرانه ، جئناك وابننا عندك، فامنن علينا، وأحسن إلينا في فدائه .
سأل النبي عليه السلام : ومن هو؟ قال حارثة : هو زید بن حارثة.
فرد عليه السلام : فهلا غير ذلك ؟ قال حارثة : وما هو؟ قال النبي : أدعوه فأخيره .. فإن اختاركم فهو لكم .. وإن اختارني ، فو الله ما أنا بالذي أختار على من اختارنی أحدا.
واهتزت مشاعر حارثة وشقيقه لمقالة رسول الله، وشكرا له کرمه، وحسن خلقه .. وأرسل النبي في طلب زید وقال له : هل تعرف هؤلاء ؟
قال : نعم .. هذا أبي وهذا عمي ..
قال له النبي : فأنا من قد علمت ورأيت صحبتي لك ، فاخترنى أو اخترهما.
قال زيد : ما أنا بالذي أختار عليك أحدا .. أنت منی مكان الأب والعم . وثار الأب والعم وقالا لزيد : ويحك أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك ؟
قال زيد : نعم قد رأيت من هذا الرجل شيئا ، ثم اتجه بالحديث إلى النبي عليه السلام قائلا : ما أنا بالذي يختار عليك أحدا . أنت الأب والمعلم.
زيد بن حارثة يدخل الإسلام
يا لها من نجابة ، وذكاء ، وقوة شخصية .. فها هو الصبی يعثر على والديه بعد طول فراق .. لكنه يختار عليهم الرجل الذي أحبه ، ولم يجد منه إلا كريم الصحبة وحسن المعاملة .
هنا توجه محمد إلى ساحة الكعبة، وامسك بيد زيد وأعلن للجميع أن اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه.
ومن ساعتها أصبح لزيد بن حارثة اسما جديدا هو زید بن محمد .. وكان زید جد سعيد بهذا الأب الذي أحبه وفضل صحبته على العودة إلى قبيلته ، وأسرته ، ووالديه .
وتزيد الأيام زیدا حبا لمحمد كما تزيد محمدا رعاية ، وعطفا على زيد الذي كان يرى في خصال محمد ، وفي أخلاقه نموذجا ندر أن يوجد بين البشر .
فهو أمين كريم العشرة ، ثابت العزيمة ، قوى الإرادة ، شديد البأس ، کامل الوفاء ، صادق المودة ، يصل الرحم ، ويحسن معاملة كل من حوله .
كما كان يراقبه ، وهو يعتكف للتعبد في غار حراء يقضي الأيام صائما مكتفيا بالقليل من الزاد ، متأملا باحثا عن الحقيقة ..
وجاءت محمد البشارة .. بالدعوة إلى الحق .. إلى الإسلام، وتكون خديجة الزوجة الوفية الرحيمة هي أول من يصدق محمدا من النساء وتعلن إسلامها ویکون على ابن أبي طالب ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام ، والذي كان يعيش في كنف محمد هو أول صبي يؤمن بابن عمه محمد الأمين ويعلن إسلامه ..
وكذلك زيد فقد رأى أن محمدا ، وزوجته خديجة ، وابن عمه علی يؤدون صلاة خاصة ، ويرتلون كلاما له طعم خاص ، سأل عن ذلك، فأبلغه محمد أن الوحي قد جاءه ، وأمره أن يبشر بدین جدید هو الإسلام ، وأن جبریل يأتيه بين الحين والحين بآیات محکمات – هن أم الكتاب – وهذا هو القرآن .. ولم يكن هناك مجال للتردد ، أو المناقشة ..
زيد بن حارثة يتزوج زينب بنت جحش
فزيد يعرف عن محمد كل الخصال الطيبة العظيمة، ولا يمكن أن يكون ما يقوله اليوم غير الصدق .. كل الصدق .. إذن فهو الإيمان .. هو الإسلام .. هي الشهادة ..
ونطق زيد بالشهادة .. أشهد أن لا إله إلا الله .. وأن محمدا رسول الله .. ويكون زيد هو ثالث من آمن بمحمد، واعتنق الإسلام دینا ..
ويزداد زيد بمحمد ارتباطا .. ويزداد محمد لزيد حبا .. ولم لا .. وهذه الأيام تظهر في كل فرصة فضيلة جديدة من فضائل هذا الفتى الذي قربه الرسول من قلبه ، ومن مجلسه .
وإلى يثرب يهاجر زید مع من هاجر من المسلمين ، ثم يشارك في كل الغزوات ، والحملات العسكرية للمسلمين .
وظل زید بن حارثة حب رسول الله، وأقرب الناس إلى قلبه، حتى قالت السيدة عائشة رضي الله عنها : ما بعث رسول الله زيد بن حارثة في الجيش قط إلا أمره عليهم .. ولو بقي حيا بعد رسول الله لاستخلفه.
أراد النبي أن يحقق هذه المساواة بشكل عملي، فزوج زید بن حارثة من إحدى شريفات بنی هاشم وهی زینب بنت جحش.
وتزوج زید من زینب .. لكنه لم يكن زواجا موفقا .. وتم الطلاق بينهما .. ولما مرت بزينب شهور العدة طلبها النبى للزواج ..
وكان هذا مخالفا لما اعتادت عليه العرب من تحريم زواج مطلقات الأدعياء .. لكن القرآن نزل بالوحي ليبيح للمسلم الزواج ممن كن أزواجا لأدعيائهم .
هذا هو العام الثامن للهجرة .. وهذا هو شهر جمادى الأولى.. وها هو الرسول عليه السلام يدعو إليه ثلاثة آلاف من خيرة رجال المسلمين بقيادة زید بن حارثة .
وودع الناس أمراء الجيش، وجنوده ، وسار النبى معهم حتى ابتعدوا عن حدود المدينة ، وقد أوصاهم بقيادة الجيش بعد زيد جعفر بن أبي طالب ، وبعده لعبد الله بن رواحة .
زيد بن حارثة شهيدا
نعم .. كان زید بن حارثة هو القائد .. قبل جعفر ابن أبي طالب ابن عم رسول الله ..
وكان من بين جنود هذه الحملة خالد بن الوليد فارس العرب ، سيف الله المسلول كما سماه النبي الكريم .. وكان حديث عهد بالإسلام .. وأراد بهذه المشاركة أن يثبت حسن ولائه للإسلام ..
كانت هذه الحملة تتجه إلى حدود بلاد الشام مع بلاد العرب التي كانت واقعة تحت حكم الروم .
وكان الروم قد أحسوا بخطر الدعوة الجديدة الآتية من بلاد العرب، وبدءوا يناوشون المسلمين ، ويستعرضون قوتهم ، فكان لابد أن يرد المسلمون على هذا الموقف .. ورغم الفارق الكبير في العدد، والعدة .. إلا أن المسلمين كانوا يشعرون وكأن كل محارب في جيشهم يساوي مئة في الجيش المقابل ؛ بما يملأ قلوبهم من الإيمان ، والعزيمة ، والرغبة في الدفاع عن دينهم الحق .
وسار جيش المسلمين في ثلاثة آلاف ليقابل ثلاثمائة ألف من المقاتلين الروم في مؤتة .
وكانت معركة غير متكافئة .. لكن الإيمان من جانب المسلمين دفعهم إلى اقتحام خصومهم يطلبون النصر أو الشهادة ..
وسقط زید بن حارثة في اليوم الأول شهيدا بعد أن أبلى بلاء حسنا .
ورفع الراية جعفر بن أبي طالب من بعده ليلحق به في عالم الشهادة .. ثم عبد الله بن رواحة .
کرام ثلاثة .. قدموا حياتهم في سبيل نصرة دينهم ..
خالد بن الوليد سيف الله المسلول
وتولى خالد بن الوليد قيادة الجيش من بعدهم .. فاستخدم دهاءه العسكري ، وأوهم الروم أن هناك مددا كثيرا قد أتاه من المدينة ، فأدخل في قلوبهم الرعب، فتوقفوا عن القتال خشية مضاعفة خسائرهم التي أوقعها بهم المسلمون في اليوم الأول.
وأخذ ابن الوليد قرار العودة مكتفيا بما فقد الجيش من خيرة صحابة الرسول الكرام مؤمنا بعدم تكافؤ جيشه مع جيش الروم في العدد، والعدة .. ويعلم النبي الكريم بمصرع زيد ، و جعفر وابن رواحة ..
ويخبر أنهم في الجنة جزاء لما بذلوه في سبيل نصرة الحق ، وإعلاء راية الإسلام .
رحم الله زیڈا .. فقد كان نعم الصديق، ونعم الرفيق .. ونعم الصحابي المؤمن التقى .