عبدالله بن رواحة الشاعر الشهيد رضى الله عنه

عبدالله بن رواحة الشاعر الشهيد رضى الله عنه

عبدالله بن رواحة الشاعر الشهيد رضى الله عنه

حديثنا الآن عن عبدالله بن رواحة الشاعر الشهيد رضى الله عنه.

بيعة العقبة

في عام 621 ميلادية .. جاء اثنا عشر رجلا من أهل يثرب للقاء النبي عليه السلام .. وكان اللقاء على مشارف مكة في مكان يسمى العقبة  .

يومها جلس النبي مع هؤلاء يجيب على أسئلتهم تفتحت قلوبهم لدعوته فملأها النور .. فبايعوه ..

على أي شيء بايعوه .. بايعوه على ألا يشرك أحدهم بالله شيئا .. ولا يسرق ولا يزني ولا بقتل أولاده ولا يأتي ببهتان يفتريه من بين يديه ولا رجليه ولا يعصي الله في معروف .

كان من بين هذا الوفد القادم من يثرب شاب وسيم تبدو عليه ملامح الزعامة .. أطال النظر إلى وجه النبي وكأنه يتمنى  أن يحتفظ بقسماته فى ذاكرته وقلبه .. ابتسم ابتسامه المؤمن المصدق الموافق على ما سمع ثم توجه بالسؤال إلى الرسول فقال :

يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت .

فقال عليه السلام : أشرط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شئيا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم .

قال عبد الله بن رواحة : فإذا فعلنا ذلك فلماذا لنا ؟

قال عليه السلام : الجنة ..

هنا تهللت وجوه الوفد كله وصاحوا معا : ” ريح الربيع .. لا نقيل ولا نستقيل ..” .

بعدها نزل قول الله تعالي { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }  التوبة : 111 .

الهجرة إلى المدينة

هكذا كانت البداية.. بداية الرحلة النورانية التي سار عبد الله ابن رواحة على خطواتها في ثقة الفارس وصدق الشاعر وثبات المؤمن ..

كانت بيعة العقبة الأولى هذه تضم اثنی عشر رجلا .. أما العقبة الثانية – في العام التالي – فقد ضمت خمسة وسبعين مسلما منهم امرأتان .

وهكذا كان بدء التفكير في هجرة النبي عليه السلام إلى يثرب وبدأ الإعداد لهذه الهجرة التي حولت مؤشر المواقع من مكة إلى المدينة كما قلنا في بداية حديثنا .

وتجمع المسلمون عند مداخل المدينة يستقبلون نبيهم ورسولهم بالفرحة والسعادة .. مع أمنية عزيزة كانت ترقد في صدر كل منهم هي أن يحظى بدخول النبي بيته فيكون ضيفه ..

وتقدم عبد الله بن رواحة وأمسك بزمام القصواء ناقة النبي وقال له : إلينا يا رسول الله حيث العز والمنعة. إلا أن ، الرسول شكره وقال له كما قال لكل من تقدم إليه طالبا هذا الشرف . قال : اتركوها فإنها مأمورة .

وسعد ابن رواحة برفقة النبي عليه السلام .. يلازمه ويسمع منه .. يصلي خلفه ويحفظ ما ينزل عليه من القرآن..

كان عبد الله بن رواحة شاعرا مشهودا له بين العرب .. وما إن دخل الإسلام قلبه حتى وظف موهبته هذه الخدمة دينه والدفاع عن نبيه .. ومن جميل شعره ..

                        ولو سألت أو استنصرت بعضهم     والله يعلم أن ما خانني البصر

                        أنت النبي ومن يحرم شفاعته         يوم الحساب فقد أززی به القدر

فلما سمع منه رسول الله هذا القول .. أقبل بوجهه

مبتسما على ابن رواحة وقال : وإياك فثبت الله .

عبدالله بن رواحة الشاعر

وتوالت قصائد عبد الله بن رواحة خاصة بعد هذه الدعوة العظيمة التي دعا النبي له بها إلى أن نزل قول الله تعالى: { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } فامتنع عن قول الشعر وقال: وقد علم الله أني منهم . واستمرت مقاطعة ابن رواحة للشعر حتى بعد أن نزل قوله تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } الشعراء : 227.

خرج عبد الله بن رواحة يوما مع النبي – عليه السلام – وأصحابه في سفر طويل . وبينما هم في الطريق قال له النبي : ” انزل فحرك بنا الركب” أي قل شعرا ينبه الناس ويطرد عنهم كسلهم فيستحثون بدورهم الدواب لتسرع في سيرها.

فأجابه ابن رواحة : یا رسول الله .. إني قد تركت قولي هذا.. أي تركت قول الشعر . فغضب عمر بن الخطاب وصاح فيه : اسمع وأطع.

وفاضت قريحة ابن رواحة طاعة لرسول الله ..

یا رب لولا أنت ما اهتدينا         ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا                وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الكفار قد بغوا علينا          وإن أرادوا فتنة أبينا

فلما استمع النبي لإنشاده دعا له قائلا : ” اللهم ارحمه” ۔

وهكذا وجبت الرحمة المطلقة . أو قل الجنة لهذا الفارس الشاعر النبيل ..

عمرة القضاء

تروي الكتب التي تؤرخ لصدر الإسلام هذه الرواية عن ابن رواحة، فقد صاحب عبد الله بن رواحة النبي في عمرة القضاء وكان يمسك بزمام القصواء ناقة النبي الذي كان يسير خلفه المسلمون مهللين مكبرين فرحين بزيارة بيت الله الحرام .. وانفعل ابن رواحة بالموقف وفاضت شاعريته فانطلق يقول :

                    خلوا بني الكفار عن سبيله          خلوا فكل الخير مع رسوله

                    نحن ضربناكم على تأويله          كما ضربناكم على تنزيله

                    ضربا يزل الهام عن مقيله         ويذهل الخليل عن خليله

وأثارت هذه الأبيات مشاعر بعض المسلمين وتحركت في داخلهم نوازع الحرب .. لكن هذا يخالف بنود صلح الحديبية.. وتنبه عمر بن الخطاب فنبه ابن رواحة إلى هذا .. وسمع النبي ما يدور من حوله فاتجه بالحديث إلى ابن رواحة قائلا: إيه يا بن رواحة .. قل : لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده”.

وانطلقت حنجرة ابن رواحة رافعة ما قاله الرسول ..

فتبعه باقي المسلمين .. وأصبح هذا النداء هو نداء المسلمين يرددونه قبل صلاة العيدين تأسيا بإمامهم ونبيهم ورسولهم عليه الصلاة والسلام.

وكما كان عبد الله بن رواحة شاعرا تتناقل الصحاري والوديان أبيات شعره .. فقد كان فارسا مقاتلا تشهد له

ساحات القتال بالقوة والشجاعة والذكاء العسكري .. وكان من القلائل في مجتمعه الذين أمسكوا القلم ليكتبوا فوق الصفحات .. لكن التاريخ سجل مفاخر ما قدمت يمناه من الدفاع عن الإسلام ونبيه في مواقع بدر وأحد والخندق ومؤتة. وكان فوق هذا وذاك رجلا حكيما ذكي الحوار قوي الحجة ..

صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم

خرج رسول الله يوما لزيارة أحد صحابته – وكان مريضا – ومعه أسامة بن زید و عبد الله بن رواحة وعدد آخر من الصحابة .. وفي طريقهم شاهدوا عبد الله بن أبي – زعیم المنافقين – يجلس مع بعض رفاقه ..

ولأن النبي كان نموذجا للذوق الرفيع والخلق الحسن فقد نزل عن راحلته وراح يسلم على هؤلاء الذين يفترض أنهم مسلمون وكعادته رتل النبي بعض القرآن ودعا إلى الله أملا في حسن الثواب ، وما إن انتهى الرسول من حديثه حتى قال له ابن أبي :

يا هذا .. إنه لأحسن من حديثك هذا – إن كان حقا – أن تجلس في بيتك فمن جاءك فحدثه إياه . ومن لم يأتك فلا تعذبه به ولا تأته في مجلسه بما يكره .

وثار رفاق النبي وصحابته لهذه الصفاقة التي تحدث بها ابن أبي وشهروا أسلحتهم يتقدمهم عبد الله بن رواحة الذي صاح قائلا:

یا رسول الله .. إن الذي قلت لهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حمید ، وإنه والله لأحب شيء إلى نفوسنا وقلوبنا ، فاغشنا به ، وائتنا به في مجالسنا ودروبنا وبيوتنا فهو – والله – ما نحب وما أكرمنا الله به وهدانا بك.

فمضى عبد الله بن أبي صامتا خائفا .. وما نظنه خجلا . فالمنافقون لا يعرفون الخجل ..

ولتكن لنا هنا وقفة عند محطة هامة في حياة الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة.. وهي غزوة مؤتة .. هذه الغزوة التي شهدت استشهاده ..

الشهداء الثلاثة

بدأ التفكير في هذه الغزوة مع بداية العام الثامن للهجرة 629 میلادية .. بعد أن أيقن الرسول وصحبه بضرورة تأمين الحدود الشمالية للجزيرة العربية بعد أن تم تأمين الجنوب بولاء حاكم اليمن وإبرام المعاهدة مع قریش .. وبعد أن ضمن انتشار الإسلام في أغلب أرجاء الجزيرة . أصبح لزاما فتح باب هذا الانتشار خارج الجزيرة . وكانت الشام هي نقطة البداية الإستراتيجية لهذا.

دعا الرسول عليه السلام إليه ثلاثة آلاف مقاتل من المسلمين بقيادة زید بن حارثة وقال لهم :

إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس .. وإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس .. واتجه ابن رواحة لرسول الله يودعه ويتزود منه بالنصائح قال:

یا رسول الله مرني بشيء أحفظه عنك .

قال عليه الصلاة والسلام : إنك قادم غدا بلدا السجود فيه قليل.. فأكثر السجود.

قال عبد الله : زدنی یا رسول الله .

قال : اذكر الله فإنه عون لك على ما تطلب .

فقام ابن رواحة إلى سبيله .. إلا أنه ما لبث أن عبد إلى رسول الله ليقول له: يا رسول الله .. إن الله وتر* يحب الوتر.

وكأني بعبد الله بن رواحة يريد أن يستزيد من حديث رسول الله لأن قلبه يخبره بأنها ربما كانت المرة الأخيرة التي يلتقيان فيها أجابه رسول الله : ” يا بن رواحة ما عجزت فلا تعجزن إن أسأت عشرا .. أن تحسن واحدة “.

تملى عبد الله وجه النبي طويلا. وقال وعلى وجهه طيف ابتسامة :

– لا أسألك عن شيء بعدها . ثم راح ينشد ..

                    فثبت الله ما أتاك من حسن          تثبيت موسی ونصرا كالذي نصروا

                    إن تفرست فيك الخير أعرفه        فراسة خالفتهم في الذي نظروا

                    أنت الرسول فمن يحرم نوافله       والوجه منه فقد أزرى به القدر

غزوة مؤته

ومضى عبد الله بن رواحة .. لينضم إلى ركب المجاهدين المتجهين إلى حدود لشام وكان من بين فرسان هذه الحملة خالد بن الوليد.. الذي كان حديث عهد بالإسلام فأراد أن يثبت ولاءه بانضمامه إلى هذا الجيش .

وقف المسلمون يودعون فرسانهم المجاهدين ويدعون لهم : صاحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا سالمين ..

أما النبي – عليه السلام – فقد سار مع جنوده حتى حدود المدينة المنورة ووقف يعظهم ويقول : لا تقتلوا النساء ولا الأطفال ولا المكفوفين ولا الصبيان ولا تهدموا المنازل ولا تقطعوا الأشجار .

ومضت الحملة في سيرها وقد ظن قادتها أنهم سيباغتون الروم في الشام فيحصلون على نصر سريع وغنيمة.

لكنهم ما إن اقتربوا حتى تبين لهم أن شرحبيل عامل هرقل على الشام قد علم بقدومهم .. فجمع حوله القبائل .. كما طلب المدد من هرقل .. فأرسل إليه جيشا من الروم والعرب .

واقترب جيش المسلمين من أرض الشام .. وأرسلوا عيونهم تراقب الموقف .. وعلموا أن جيشا قوامه مائة ألف أو يزيد قد اجتمع للقائهم . واجتمع قادة المسلمين ينظرون ماذا هم فاعلون .. اقترح البعض أن يرسلوا للنبي بعد عدوهم .. فهو إما يرسل لهم المدد اللازم .. أو يدعوهم للعودة .. أو يأمرهم بالقتال .

الشهيد

هنا قام عبد الله بن رواحة وقد اجتمعت في داخله كل معاني الإيمان والصدق والفروسية وحب الشهادة .. فقال  لهم :

یا قوم : والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون – يقصد الشهادة – وما نقاتل الناس بعد ولا قوة ولا كثرة ، دواها نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فانطلقوا ، فإنما هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور وإما شهادة ..

وسری تیار الإيمان والبسالة في جموع المسلمين .. وصاحوا في صوت واحد .. فوالله صدق ابن رواحة ..

وعند قرية مؤتة التقى الجيشان .. جیش الروم بعدده وعدته.. وجيش المسلمين بإيمانه واستماتته ..

وكان قتالا شرسا بين قوتين غير متكافئتين في العدد .. قاتل زید بن حارثة جب رسول الله وحامل راية الإسلام قتالا مستميتا . حتى استشهد ..

وتسلم منه الراية جعفر بن أبي طالب ابن عم الرسول فقاتل بشراسة حتى استشهد .

وأسرع عبد الله بن رواحة فحمل الراية ثم مضى يصر أعداءه وكأنه جيش بأكمله . لكن .. هل تغلب الشجاعة الكثرة .. كثرة العدد وكثرة السلاح والعدة؟؟

ولحق ابن رواحة بزميليه .. لحق الأنصاري الهمام بالمهاجرين البواسل .. ليلتقي ثلاثتهم في جنة الخلد محمولين على سرر من ذهب..

هكذا هو .. عبد الله بن رواحة مجاهد في سبيل الله .

خالد بن الوليد سيف الله المسلول

محبا لدينه ولرسوله منذ اللحظة التي بايع فيها على نصرة الإسلام في العقبة الأولى .. فأعطي هذه العقيدة التي آمن بها كل ما يملك وها هو يعطيها أغلى وآخر ما يملك؟ .. روحه الطاهرة ..

سلام عليك يا بن رواحة مع الشهداء والصديقين والأبرار. لكن كيف انتهت هذه الموقعة – موقعة مؤتة – بعد موت أمرائها الثلاثة واحدا بعد الآخر ؟

بعد موت ابن رواحة ثالث هؤلاء الأمراء قرر المجاهدون المسلمون اختيار خالد بن الوليد قائدا وأميرا عليهم .. وكان خالد كما هو معروف عنه واحدا من أصحاب العبقرية العسكرية الفذة.

نظر خالد بن الوليد في الأمر .. ووجد أن عددا كبيرا من مقاتلي المسلمين قد استشهدوا .. صحيح أنهم أبلوا بلاء حسنا وكبدوا العدو خسائر كبيرة .. لكن قوة هذا العدو مازالت قادرة على الصمود ..

ولم يجد خالد أمامه إلا الحيلة.. فقد أمر قوة جيشه أن تتوزع في الخلف في خط عرضي على أن تتحرك الخيول والإبل لتصنع عاصفة رملية عالية .. تحدث جلبة ..

ولما رأت جنود الروم هذا ظنوا أن مددا جديدا قد وصل إلى المسلمين .. وخافوا من العودة إلى مواجهتهم فولوا هاربين ..

وكانت فرصة لجيش المسلمين كي يعود بعد هذا البلاء الحسن.. صحيح أن هذه الغزوة لم تحقق نصرا للمسلمين .. لكنها في ذات الوقت لم تحقق نصرا لأعدائهم ..

وكانت مؤتة هي البداية .. وكان بعدها النصر في ذات السلاسل ثم تبوك التي فتحت للإسلام شمال الدنيا وغربها وشرقها ..!

اقرأ أيضا القصص الآتية:

عبد الله بن مسعود

زيد بن حارثة

بلال بن رباح

عمار بن ياسر

أنس بن مالك

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال