رجال حول الرسول عبدالله بن مسعود الراعي الأمين رضى الله عنه
فلنتكلم اليوم ضمن سلسلة رجال حول الرسول عن عبدالله بن مسعود الراعي الأمين رضى الله عنه.
الراعي الأمين
أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد. عبد الله بن مسعود .
كان الوقت ضحى ، وقد اجتمع سادة قريش ، ووجهاؤها حول الكعبة في مجموعات تتناقش في أمور تجارتها ، ومبادلاتها ..
لقد اطمأنوا إلى أن العبيد، والخدم قد خرجوا إلى المراعي ، يدفعون أمامهم الإبل ، والأغنام ..
كما اطمأنوا إلى أن هناك من الإماء من يقمن على خدمة الدور ، وسيدات البيوت …
جاء هؤلاء كما هي العادة يجلسون معا للمشورة ، والحديث ، وقبل أن يأخذ كل منهم مكانه متوجها إلى صنمه يقدم له التحية، ويسأله العون ، والتوفيق ..
نعم .. فقد كان لكل مجموعة صنم خاص بها .. وأحيانا أخرى يكون لكل مسألة صنم ..
فهذا الصنم يسألونه الربح الوفير ..
وذاك يتوسلون إليه ، کی يشفي مريضا .
أما الثالث فإنهم يقدمون له القرابين ، کی تنجب نساؤهم ذكورا ، يكونون عونا لهم وسندا .
وبينما كان هؤلاء السادة جلوسا يتناقشون ، ويتضاحكون .. إذا بصوت يرتفع بقراءة غريبة :
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ . الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [الرحمن : 1-5] .
والتفت الجميع إلى مصدر الصوت متعجبين ، إنه هذا الفقير النحيف القصير القامة .
وتبادل سادة قريش نظرة تعجب ، وهم يتساءلون : أليس هذا شيئا مما يقوله محمد، ويدعي أنه قد أوحي إليه من السماء ..
ومضى الفتى يقرأ رافعا صوته :
{ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ . وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ . أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ } [الرحمن : 6 ـ 9 ] .
وقام الجمع إلى الفتي يضربون وجهه ، ورأسه وجسمه ، وهو ماض في قراءته لا يقطعها حتى غلبوه ضربا ، ففر منهم راجعا إلى أصحابه ..
الفتى الأمين
وما إن دخل عليهم حتى أسرعوا يمسحون جروحه ، ويغسلون ما سال من دمه، وقالوا له:
هذا الذي خشيناه عليك فرد عليهم عبد الله بن مسعود :
بأنه يتمنى أن يعود إليهم ، فيسمعهم من القرآن ما يثير غضبهم مرة أخرى.
فمن هو عبد الله بن مسعود وكيف دخل الإسلام ؟
وكيف كان لقاؤه الأول بالرسول عليه الصلاة والسلام .
كان عبد الله غلاما أجيرا يرعى غنم واحد من سادة قريش في أطراف مكة .. وبينما هو جالس يوما يراقب أغنامه مر به النبي الكريم ، ومعه صاحبه الصديق أبو بکر ، فطلبا منه بعض اللبن ورفض الغلام أن يسقيهما قائلا : إني مؤتمن ولست ساقیکما ..
يا لأمانة الفتى !!
فطلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه بشاة ليس فيها لبن .. ومسح النبى صلى الله عليه وسلم على ضرعها ، فامتلأ لبنا، فحلبه ، وشرب ، ومعه أبو بكر ، وكذلك الفتى الذي تعجب مما رأى وانبهر ..
فسأل عبد الله محمدا أن يعلمه بعض هذا ، وقد ظنه سحرا ، فقال له النبي الكريم : ” إنك غلام معلم” .
وتبع عبد الله بن مسعود النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعلن شهادته أمامه ، ليكون سادس من يدخل في دين الإسلام.
هكذا تحول مصير الفتى الأمين الذي رفض أن يفرط في بعض اللبن المملوك لسيده ..
وبعد أن كان أجيرا يرعى الغنم، أصبح أكثر المسلمين علما بالقرآن ، والسنة والفقه ..
وظل عبد الله بن مسعود قريبا من النبى صلى الله عليه وسلم .. حتى قال الصحابي أبو موسى الأشعري عن مكانة عبد الله ابن مسعود من النبي إنه كان ليدخل إذا أحجبنا ويشهد إذا غبنا.
صحبة النبي صلى الله عليه وسلم
فقد لازم عبد الله بن مسعود النبي الكريم ولم یکن يفارقه .. وكان يحفظ كل ما يسمعه منه خاصة القرآن الكريم حتى أوصى الرسول أصحابه أن تمسكوا بعهد ابن أم عبد أي عبد الله بن مسعود .. كما أوصاهم أن يحاكوا قراءته ، ويتعلموا منه كيف يتلى القرآن ؟
كان صوت عبد الله بن مسعود ندیا يملأ القلوب خشوعا ، ويحكي لنا عبد الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: اقرأ على.. قلت یا رسول الله أأقرأ عليك وعليك نزل ؟! ، قال : نعم . فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية :
{فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [النساء : 41] .
قال عليه السلام : حسبك الآن ، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان الدمع.
وإلى جانب إجادته لقراءة القرآن .. كان عبد الله بن مسعود فصيحا ، قوى الحجة ، واضح البيان ، قوى العبارة ..
خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوما خطبة وجيزة ثم قال : قم يا أبا بكر ..
فقام فخطب دون النبي عليه السلام .. فقال : قم يا عمر: فاخطب ، فخطب عمر فقصر.
ثم قال : قم يا بن أم عبد یعنی عبد الله بن مسعود فقام عبد الله ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
” أيها الناس إن الله ربنا. وإن الإسلام ديننا ، وإن هذا نبينا ، وأشار بيده إلى النبي – رضينا ما رضي الله لنا ورسوله والسلام عليكم”.
فقال الرسول عليه السلام: أصاب ابن أم عبد ، وصدق ابن أم عبد .
أحب النبى صلى الله عليه وسلم صاحبه عبد الله بن مسعود وأولاه ثقة كبيرة ، وقربه منه حتى أنه كان يسمح له يطرق بابه وقتما شاء .. ليلا ، أو نهارا.. ولازم ابن مسعود النبى، وشهد معه كل أسفاره ، وكل غزواته ، وكان له فيها بطولات عظيمة ..
الشجاعة
كان عبد الله فتی معدما ، ناحل الجسم .. ضامر الأطراف ، لا جاه له ولا عشيرة ، لكنه كان أمينا.. مؤتمنا.
وهذه هي ملامح الرجولة المبكرة، والشجاعة، والنفس السوية .. وهكذا كان عبد الله بعد إسلامه .. فرفعه الإسلام، ومنحه شرفا ، وعلما ووضعه في مقدمة صحابة رسول الله ..
لقد تنبأ له الرسول – عليه الصلاة والسلام – يوما بأنه سيكون غلاما معلما.. وقد كان ، فقد علمه ربه ، ورباه النبي صلى الله عليه وسلم فأضحى فقيه الأمة ، وعميد حفظة القرآن ..
كان لابن مسعود مكانة خاصة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم.. كان يحبه ويثق في تقواه حتى أنه قال عليه السلام :
” رضيت لأمتي ما رضى لها ابن أم عبد ، وسخطت لأمتي ما سخط لها ابن أم عبد”.
بعد وفاة النبي الكريم عاش عبد الله موسوعة تحفظ كل ما نزل على النبي من وحي ، وكل ما قاله من حديث ، أو أتاه من فعل ، وكان مرجع الجميع في أي خلاف بينهم وقد أولاه الخلفاء – أبو بكر، وعمر وعثمان – رعاية خاصة ، عملا بوصية النبي صلى الله عليه وسلم ، واقتداء بسلوكه .
إلا أن عبد الله بن مسعود كان يخاف أن يحدث عن النبي بعد وفاته .. وكان إذا حرك شفتيه ليقول: سمعت رسول الله يقول أخذته الرعشة والاضطراب ، وجرى عرقه وتلعثم. وينهى حديثه قائلا : أو نحو ذلك .. أو شبه ذا .
فقد كان يخشى أن ينسی حرفا ، أو لفظا .. أو يضع كلمة مكان أخرى ، لقد كان حبه ، وإجلاله ، وتوقيره للنبي ليس له مدى .
رجل دولة
ومع هذا الدور العظيم في حفظ كتاب الله وسنة نبيه ..
كان لابن مسعود دور هام في إرساء دعائم دولة الإسلام بعد أن اتسعت مساحتها وخضعت لها كثير من البلدان .
وكان الخلفاء الراشدون يوكلون إلى ابن مسعود المهام الكبرى خاصة فيما يتعلق بالفتوى والقضاء وأمور بیت المال ..
وفي خطابه لأهل الكوفة يقول الفاروق عمر رضى الله عنه :
إني قد بعثت عمار بن یاسر أميرا ، وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا ، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أهل بدر، فاقتدوا بهما ، وأطيعوا واسمعوا قولهما ، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسی..
هكذا كان عمر رضي الله عنه عارفا بقدر عبد الله بن مسعود ، واثقا في علمه وحسن تفقهه في الدين .
وقضى ابن مسعود سنوات طويلة في الكوفة قاضيا ومفتيا .. وقائما على بيت مال المسلمين .. تغير في أثناء وجوده ستة من الولاة .. يستشيرونه وينزلون على رأيه .. لم لا ، وهم يعلمون أنه أحد المبشرين بالجنة .
ألم يقل عليه صلوات الله وسلامه :
“لرجلا عبد الله في الميزان أثقل من أحد “.
نعم قال رسول الله ذلك عندما ضحك بعض الصحابة من نحافة ساقيه ..
يروى أحد الصحابة : كنا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فذكر بعض قول ابن مسعود ، وأثنى القوم عليه. ثم قالوا: يا أمير المؤمنين ، ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما ، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعا من عبد الله بن مسعود .
فقال كرم الله وجهه : ناشدتكم الله إنه لصدق من قلوبكم ؟
قالوا: نعم ..
فقال : اللهم إني أشهدك ، اللهم إني أقول فيه مثل ما قالوا أو أفضل.
أما أبو موسى الأشعرى المعروف بورعه وتقواه وعلمه ، فكان يطلب من الناس ألا يسألوه عن شيء ما دام هذا الخبر بين أظهركم ويعني عبد الله بن مسعود .
هذا هو عبد الله بن مسعود ، الذى بشره النبي الكريم بالجنة ضمن من بشر..
فقد كان وثيق اليقين ، كبير القلب .. عظيم النفس ..
كلمات خالدة
ومن بين كلماته الجامعة :
“خير الغنى غنى النفس .. وخير الزاد التقوى ، وشر العمى عمى القلب ، و أعظم الخطايا الكذب، وشر المكاسب الربا ، وشر المأكل مال اليتيم ، ومن يعف يعف الله عنه ، ومن يغفر يغفر الله له”.
ومن أقواله التي تعكس حبه للعلم وإيمانه بأهميته :
عليكم بالعلم قبل أن يقبض ، وقبضه ذهاب أهله ، فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه ، وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم ، فعليكم بالعلم وإياكم والتعجل وإياكم والتنطع.
أما خبرة عبد الله بن مسعود بالحياة وبطبيعة البشر ، فتعکسها هذه المقولة الحكيمة التي نختم بها حديثا عن هذا الصحابي العظيم .
يقول :
إذا رأيتم أخاکم قارف ذنبا ، فلا تكونوا أعوانا للشيطان عليه فتقولوا : اللهم اخزه .. اللهم العنه ، ولكن سلوا الله العافية ، فإنا أصحاب محمد عليه السلام كنا لا نقول في أحد شيئا حتى نعلم علام يموت .
فإن ختم له بخير علمنا أنه أصاب خيرا ، وإن ختم له بشر خفنا عليه.
عليك رضوان الله ورحمته يا من كنت أول مجاهر بالقرآن بعد رسول الله.