تفسير جزء تبارك سورة الملك مكتوب
على بركة الله تعالى نبدأ في تفسير جزء تبارك ومع السورة الأولى في الجزء وهي سورة الملك ..
فضلها:
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت الرجل حتى غفر الله له : تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ” رواه الترمذي .
” تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ “
يمجد تعالی نفسه الكريمة ، ويخبر أنه بيده الملك أي هو المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء .
” وَهوَ عَلَى كلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ “
فهو القادر على كل شيء .
” الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ “
أي أوجد في الدنيا الحياة والموت فأحيا من شاء ، وأمات من شاء ، وهو الواحد القهار .
” لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا “
ليختبركم أيكم خير عملا . فيرى المحسن من المسيء .
” وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ “
الْعَزِيزُ: الذي له العزة كلها: عزة القدر: أن الله ذو قدر عزیز، يعني لا نظير له .
عزة الغلبة : أنه سبحانه غالب كل شيء قاهر كل شيء .
عزة الامتناع : أن الله يمتنع أن يناله سوء أو نقص .
الْغَفُورُ : هو الذي يكثر منه الستر على المذنبين من عباده، ويزيد عفوه على مؤاخذته .
” الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا “
أي طبقة بعد طبقة ، لكن من غير مماسة إذ ما بين كل سماء وأخرى هواء فارغ مسيرة خمسمائة عام .
” مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ “
أي من اختلاف أو تضاد أو تنافر ، وإنما التناسق والانتظام .
” فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فطُورٍ “
أي انظر إلى السماء هل ترى فيها عيب أو نقصا أو خلالا
” ثمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ “
مرتين .
” يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ “
أي ذليل مبعدا تعبا، قد انقطع من الإعياء من كثرة التكرار ولا يرى نقص .
” وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ “
أي هذه الدانية من الأرض القريبة منها بمصابيح هي النجوم والكواكب .
” وَجَعَلْنَاهَا رجُومًا لِلشَّيَاطِينِ “
أي وجعلنا لها فائدة أخرى وهي رجم أعدائكم الشياطين الذين يسترقون السمع .
” وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ “
أي جعلنا للشياطين هذا الخزي في الدنيا وأعتدنا لهم عذاب السعير في الآخرة .
” وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ “
أي وللكافرين بربهم عذاب جهنم أيضا ، فليس العذاب مختصة بالشياطين بل هو لكل كافر بالله من الإنس والجن .
” وَبِئْسَ الْمَصِيرُ “
أي وبئست النار مرجع ومصير للكافرين .
” إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ “
أي إذا قذفوا وطرحوا في جهنم كما يطرح الحطب .
” سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا “
أي سمعوا لجهنم صوت منكرة فظيعة كصوت الحمار ، لشدة توقدها وغليانها .
” وَهِيَ تَفُورُ “
تغلي بهم .
” تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ “
أي يكاد ينفصل بعضهما من بعض من شدة غيظها عليهم وحقنها على أعداء الله .
” كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ “
أي كلما طرح فيها جماعة من الكفرة .
” سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا “
أي سألتهم الملائكة الموكلون على جهنم وهم الزبانية .. سؤال توبيخ .
” أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ “
أي ألم يأتكم رسول ينذركم ويخوفكم من هذا اليوم الرهيب ؟
” قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا “
أي أجابوا ، نعم لقد جاءنا رسول منذر ، وتلا علينا آيات الله ، ولكننا كذبنا وأنكرنا رسالته .
” وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ “
أي وقلنا تمادية في التكذيب : ما أنزل الله من الوحي على أحد .
” إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ “
وقلنا لهم ما أنتم أيها الرسل إلا في ضلال واضح عميق وبعد عن الحق .
” وَقَالُوا لَوْ كنَّا نَسْمَعُ أَوْ نعْقِلُ “
أي وقال الكفار : لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو كنا نسمع سماع طالب الحق ملتمس الهدی .
” مَا كنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ “
أي ما كنا نستوجب الخلود في جهنم .
” فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ “
أي فأقروا بإجرامهم وتكذيبهم للرسل .
” فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ “
أي فبعدأ وهلاكا لأهل النار .
” إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ “
يقول تعالى مخبرة عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه إذا كان غائبا عن الناس فينكف عن المعاصي ، ويقوم بالطاعات حيث لا يراه أحد إلا الله تعالى بأنه له مغفرة وأجر كبير أي تكفر عنه ذنوبه ويجازی بالتواب الجزيل .
” وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ “
الخطاب لجميع الخلق أي أخفوا قولكم وكلامكم أو أعلنوه وأظهروه .
” إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ “
أي بما يخطر في القلوب .
” أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ “
أي ألا يعلم الخالق .
” وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ “
اللَّطِيفُ : الذي أحاط علمه بالسرائر والخفايا ، وأدرك الخبايا والبواطن ، اللطيف بعباده المؤمنين ، الموصل إليهم مصالحهم بلطفه وإحسانه .
الْخَبِيرُ هو العالم ببواطن الأمور وخفياتها .
ثم ذكر الله تعالی دلائل قدرته ووحدانيته وامتنانه على العباد فقال :
” هوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا “
أي الله جل وعلا جعل لكم الأرض لينة سهلة المسالك .
” فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا “
أي فاسلكوا أيها الناس في جوانبها وأطرافها .
” وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ “
أي وانتفعوا بما أنعم به جل وعلا عليكم من أنواع الكسب والرزق .
” وَإِلَيْهِ النُّشُورُ “
أي المرجع يوم القيامة .
” أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ “
أي هل أمنتم يا معشر الكفار ربكم العلي الكبير أن يخسف بكم الأرض فيغيبكم في مجاهلها .
” فَإِذَا هِيَ تَمُورُ “
أي تذهب وتجيء وتضطرب .
” أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ “
أي الله الذي في العلو .
” أَنْ يرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا “
أي ريحا فيها حصباء تدمغكم .
” فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ “
أي فستعلمون عند معاينة العذاب ، كيف يكون إنذاري .
” وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ “
أي من الأمم السالفة والقرون الحالية .
” فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ “
أي فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم ؟ أي عظيمة شديدة أليمة .
” أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ “
أي أولم ينظروا نظر اعتبار إلى الطيور فوقهم باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها .
” وَيَقْبِضْنَ “
وتارة يضممن إذا ضربن بها .
” مَا يمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ “
أي ما يمسكهن في الجو عن السقوط في حال البسط والقبض إلا الخالق الرحمن .
” إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ “
أي بما يصلح كل شيء من مخلوقاته .
البصير : الذي يبصر كل شيء وإن دق وصغر ، فيبصر دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء ، ويبصر ما تحت الأرضين السبع كما يبصر ما فوق السموات السبع .
يقول تعالى للمشركين الذي عبدوا معه غيره يبتغون عندهم نصرا ورزقا منكرا عليهم .
” أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ “
أي من هذا الذي يستطيع أن يدفع عنكم عذاب الله من الأنصار والأعوان ؟
” إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غرُورٍ “
أي ما الكافرون في اعتقادهم أن آلهتهم تنفع أو تضر إلا في جهل عظيم وضلال مبين .
” أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ “
أي من هذا الذي إذا قطع الله عنكم رزقه يرزقكم بعده ؟ أي لا أحد يعطي ويمنع ويخلق ويرزق وينصر إلا الله وحده .
” بَلْ لَجُّوا “
أي استمروا في طغيانهم .
” فِي عتُوٍّ وَنُفُورٍ “
أي في معاندة واستكبار ونفور على إدبارهم عن الحق لا يسمعون له ولا يتبعونه .
” أَفَمَنْ يَمْشِي مكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى “
هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي منكبا على وجهه أي يمشي منحيا لا مستويا على وجهه أي لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب بل تائه حائر ضال ..
أهذا أهدى :
” أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا “
أي منتصب القامة .
” عَلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ “
أي على طريق واضح بين وهو في نفسه مستقيم وطريقه مستقيم ؟ هذا مثلهم في الدنيا وكذلك يكونون في الآخرة .
” قُلْ هوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ “
أي ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورة .
” وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ “
وأنعم عليكم هذه النعم ، وخص هذه الجوارح بالذكر أنها أداة العلم والفهم .
” قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ “
أي قليلا ما تشکرون ربكم على هذه النعم التي أنعمها عليكم .
” قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ “
أي بثكم ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها .
” وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ “
أي إليه وحده مرجعكم للحساب والجزاء .
” وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ “
أي متى يكون الحشر والجزاء الذي تعدوننا به ؟ إن كنتم صادقين فيما تخبروننا به من مجيء الساعة والحشر ، وهذا استهزاء منهم .
” قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ “
أي لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلا الله عز وجل لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة .
” وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ “
أي وإنما علي البلاغ وقد أديته إليكم الإنذار هو الإخبار مع التخويف .
” فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً “
أي فلما رأوا العذاب قريبة منهم وعاينوا أهوال القيامة .
” سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا “
أي ساءهم ذلك لما يعلمون ما لهم هناك من الشر .
” وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ “
أي يقال لهم على وجه التوبيخ هذا الذي کنتم تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه استهزاء وتكذيبة .
” قُلْ “
يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه .
” أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا “
أي إن أماتني الله ومن معي من المؤمنين : أو رحمنا بتأخیر آجالنا .
” فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ “
أي فمن يحميكم من عذاب الله الأليم .
” قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا “
أي قل لهم : آمنا بالله الواحد الأحد ، وعليه توكلنا في جميع أمورنا .
” فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ “
أي فسوف تعلمون عن قريب من هو في الضلالة نحن أم أنتم ؟
وفيه تهديد للمشركين .
” قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا “
أي ذاهبة في الأرض إلى أسفل فلا ينال بالفؤوس الحداد ولا السواعد الشداد .
” فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ “
أي نابع سائح جار على وجه الأرض ، أي لا يقدر على ذلك إلا الله ، فمن فضله أن أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض .