تفسير سورة الحاقة
مع تفسير سورة جديدة من جزء تبارك واليوم مع سورة الحاقة.
” الْحَاقَّةُ . مَا الْحَاقَّةُ “
اسم من أسماء يوم القيامة ، سميت بذلك : لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد ، ولهذا عظم أمرها فقال:
” وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ “
فإن لها شأن عظيما ، وهو؟
” كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ “
أي كذب قوم صالح ، وقوم هود بالقارعة أي القيامة .
” فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ “
أي الصيحة الشديدة التي أهلكتهم .
” وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ “
أي: وأما عاد ۔ قوم هود – فأهلكوا بريح قوية شديدة الهبوب ، لها صوت أبلغ من صوت الرعد القاصف .
عاتية : عتت على عاد، وزادت على الحد .
” سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا “
سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام .
حسوما : أي متتابعات بلا انقطاع .
” فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى ”
أي فترى أيها المخاطب القوم في منازلهم موتی هلکی لا حراك لهم .
” كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ “
أي كأنهم جذوع النخل التي قطعت رؤوسها الخاوية ، الساقط بعضها على بعض .
” فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ “
أي : فهل ترى أحدأ من بقاياهم ؟ أو تجد لهم أثر ؟ لقد هلكوا عن آخرهم .
” وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ “
أي وجاء فرعون الجبار ، ومن تقدمه من الأمم الطاغية التي كفرت برسولها .
” وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ “
أي المنقلبات ، وهي قرى قوم لوط التي اقتلعها جبريل ورفعها على جناحه قرب السماء ثم قلبها .
بالخاطئة : أي بالفعلة الخاطئة المنكرة ، وهي الكفر والعصيان والتكذيب بما أنزل الله .
” فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ “
أي : كل كذب رسول الله إليهم .
” فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً “
أي عظيمة أليمة شديدة .
” إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ “
أي لما تجاوز الماء حده حتى علا كل شيء وارتفع على الوجود ، وذلك بسبب دعوة نوح على قومه حين كذبوه وخالفوه .
” حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ “
حملناكم على السفينة الجارية على وجه الأرض .
” لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً “
أي وأبقينا لكم من جنس السفينة ما تركبون على تيار الماء في البحار .
” وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ “
أي وتفهم هذه النعمة من نعمة إنجائنا لأهل الإيمان وإغراقنا لأهل الكفر والعصيان ، وتعقلها أذن سامعة عاقلة منتفعة بسماع الأخبار ومنتفعة بالوعظ والتذكير .
” فَإِذَا نفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ “
هي نفخة القيام لرب العالمين .
” وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً “
أي ورفعت الأرض والجبال عن أماكنها ، فضرب بعضها ببعض حتى تندق وتتفتت .
” فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ “
أي قامت القيامة .
” وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ “
أي وانصدعت السماء فهي يومئذ ضعيفة ليس فيها تماسك ولا صلابة ، بعد تلك القوة والصلابة العظيمة ، وما ذاك إلا الأمر عظيم أزعجها ، و کرب جسيم هائل أوهاها وأضعفها .
” وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا “
أي الملائكة على أرجاء السماء وجوانبها ، خاضعين لربهم ، مستكنين لعظمته ، ينتظرون أمره .
” وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ “
ثمانية من الملائكة ، وهم حملة العرش .
” يَوْمَئِذٍ تعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ “
يومئذ : أي يوم القيامة .
تعرضون: أي على الله ، عالم السر والنجوى الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم .
لا تخفى منكم خافية : أي لا يخفى عليه شيء من أموركم ، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر .
” فَأَمَّا مَنْ أوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ “
يخبر تعالى عن سعادة من يؤتى كتابه يوم القيامة بيمينه ، لأنه من السعداء ، وأنه من شدة فرحه يقول لكل من لقيه :
” فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ “
أي خذوا اقرؤوا كتابيه ، لأنه يعلم أن الذي فيه خير وحسنات محضة .
” إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي ملَاقٍ حِسَابِيَهْ “
أي أيقنت – فالظن هنا بمعنى اليقين – أني سألقي حسابي وجزائي يوم القيامة ، فأعددت له العدة من الإيمان والعمل الصالح .
ثم قال تعالى مبينة جزاءه :
” فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ “
أي مرضية هنية ، جامعة لما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وقد رضوها ولم يختاروا عليها غيرها .
” فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ “
أي رفيعة قصورها ، حسان حورها ، نعيمة دورها ، دائم حبورها .
” قطُوفُهَا دَانِيَةٌ “
أي ثمرها وجناها ، من أنواع الفواكه قريبة سهلة التناول على أهلها ، ينالها أهلها قيام وقعودا ومتكئين ، ويقال لهم إكراما وإحسانا :
” كلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ “
أي من كل طعام لذيذ ، وشراب شهي .
هنيئا :أي تاما كاملا من غير مکدر ولا منغص ، وذلك الجزاء الحاصل لكم: بما أسلفتم في الأيام الخالية أي بسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية ، يعني أيام الدنيا .
ولما ذكر الله حال السعداء ، ذكر حال الأشقياء فقال :
” وَأَمَّا مَنْ أوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ “
هؤلاء هم أهل الشقاء يعطون كتبهم المشتملة على أعمالهم السيئة بشمالهم تمييزا لهم وخزي وعارا وفضيحة ، فيقول أحدهم من الهم والغم والحزن :
” فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ “
أي فيقول إذا رأى قبائح أعماله : يا ليتني لم أعط كتابي ، لما يحصل له من الخجل والافتضاح .
” يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ “
يقول: ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت هي الفراغ من كل ما بعدها ، ولم يكن بعدها حياة ولا بعث .
” مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ “
أي لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذاب الله وبأسه ، بل خلص الأمر إلي وحدي فلا معين لي ولا مجير .
” هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ “
أي ذهب واضمحل ، فلم تنفع الجنود ولا الكثرة ، ولا العدد ولا العدد ، ولا الجاه العريض ، بل ذهب كله .
” خُذُوهُ فَغُلُّوهُ “
أي يأمر الزبانية أن تأخذه عنفا من المحشر ، فتغله أي فتضع الأعناق في عنقه ثم تورده إلى جهنم فتطلبه إياها أي تغمره فيها .
” ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ “
أي اغمروه فيها .
” ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ “
من سلاسل الجحيم في غاية الحرارة .
فاسلكوه : أي أنظموه فيها ، بأن تدخل في دبره وتخرج من فيه ، ويعلق فيها ، فلا يزال يعذب هذا العذاب الفظيع ، ثم بين سبحانه وتعالى السبب الذي أوصله على هذا فقال :
” إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ “
بأن كان كافرا بربه ، معاندة لرسله ، راد ما جاءوا به من الحق .
” وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ “
أي ليس في قلبه رحمة يرحم بها الفقراء والمساكين ، فلا يطعمهم من ماله ، ولا يحض غيره على إطعامهم لعدم الوازع في قلبه .
” فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ “
أي ليس له يوم القيامة من ينقذه من عذاب الله لا حميم ، ولا قريب ، ولا صديق، ولا شفيع .
” وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ “
أي وليس له طعام إلا صديد أهل النار ، الذي هو في غاية الحرارة والمرارة ، ونتن الريح ، وقبح الطعم .
” لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ “
أي لا يأكل هذا الطعام الذميم : إلا الذين أخطأوا الصراط المستقيم ، وسلكوا كل طريق يوصلهم إلى الجحيم ، فلذلك استحقوا العذاب الأليم.
” فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ . وَمَا لَا تُبْصِرُونَ “
أي فأقسم بالمشاهدات والمغيبات، أقسم بما ترونه وما لا ترونه ، مما هو واقع تحت الأبصار ، وما غاب وخفي عن الأنظار .
” إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ “
إن القرآن كلامه ووحيه وتنزيله على عبده ورسوله الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة .
رسول کریم : يعني محمد ، أضافه إليه على معنى التبليغ ، لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المرسل .
” وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ “
أي وليس القرآن کلام شاعر كما تزعمون .
قليلا ما تؤمنون : أي إن إيمانكم ضيق الدائرة ، فلو كان واسعا لاتسع للإيمان بالقرآن أنه كلام الله ووحيه ، وليس هو من جنس الشعر لمخالفته له نظم ومعنی .
” وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ “
أي وليس هو بقول كاهن يدعي معرفة الغيب ، لأن القرآن
يغاير بأسلوبه سجع الكهان .
قليلا ما تذكرون : أي قلما تتذكرون وتتعظون .
“ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ “
أي هو منزل من رب العزة جل وعلا .
” وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ “
أي محمد لو كان كما يزعمون مفترية علينا فزاد في الرسالة أو نقص منها ، أو قال شيئا من عنده فنسبه إلينا وليس كذلك ،
لعاجلناه بالعقوبة ، ولهذا قال :
” لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ “
أي لانتقمنا منه باليمين ، لأنها أشد في البطش .
” ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ “
أي ثم لقطعنا نیاط قلبه حتى يموت .
” فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ “
أي فما يقدر أحد منكم أن يحجز بيننا وبينه إذا أردنا شيئا من ذلك ، والمعنى في هذا :
بل هو صادق بار راشد ، لأن الله عز وجل مقرر له ما يبلغه عنه ، ومؤيد له بالمعجزات الباهرات ، والدلالات القاطعات .
” وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ “
يعني القرآن .
” وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ “
أي مع هذا الوضوح والبيان سيوجد منكم من يكذب بالقرآن .
” وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ “
أي أن التكذيب لحسرة على الكافرين يوم القيامة .
” وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ “
أي الخبر الصدق الذي لا مرية فيه ولا شك ولا ريب .
” فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ “
أي نزه ربك العظيم عن السوء والنقائص .