التبنى الفصل الأول: أسرة سعيد
لم يكن استيقاظ “سعيد” فى صباح كل يوم على صوت المنبه كما اعتاد الناس فى الأماكن الهادئة، لكن الذي كان يوقظه كل صباح هو صوت الباعة الجائلين الذي يدوي في أزقة حي بولاق بالقاهرة، ورغم أن الحي مكتظ بالسكان من كافة المستويات الاقتصادية إلا أن العشوائية والضوضاء هي السمة الغالبة عليه..
لم يهتم “سعيد” كثيرا بتلك بالأصوات المختلطة للبائعين التي تطرق أذنه وتوقظه مرغما، بقدر اهتمامه بابنته الوحيدة التي أسرع إلى غرفتها ليوقظها.. فاليوم هو آخر مرة ستذهب فيه لأداء آخر امتحان لها في هذا العام..
“صباح” ذات الاثنا عشر عاما.. والطالبة فى الصف الثالث الإعدادي، والابنة الوحيدة التي رُزق بها “سعيد” بعد معاناة مع والدتها التي كادت أن تزهق روحها وهى تضعها..
جاءت “صباح” بعد حمل متأخر من الأم.. كم نصحها الأطباء بالراحة التامة حتى تضع مولودها، وكم أنفق أبوها من أموال على الأدوية والمتابعات لدى الأطباء حتى وضعتها أمها بمعجزة في إحدى المستشفيات الخاصة فى مدينة المهندسين..
نظر الأب “سعيد” إلى “صباح” وقد أشرقت في وجهها أشعة شمس الصباح، وتناثرت على وجنتيها قطرات عرق الصيف كأنها حبات اللؤلؤ..
روايات مصرية
أرسل الأب يديه على بعض خصلات شعرها التي ترامت على كتفها وراح يوقظها برقة وحنان.. هيا يا صباح اليوم آخر يوم لك في الامتحان، هيا حتى اصطحبك معي فى طريقي للعمل..
بعد قليل من الإلحاح على “صباح”لكى تستيقظ ترامى إلى مسامع “سعيد” صوت يفيض عزوبة وحنان.. إنه صوت زوجته وهى تنبهه إلى ضرورة الإسراع في تناول الإفطار حتى لا يتأخر على عمله..
وعلى الفور هرول “سعيد” نحو غرفة المعيشة لتناول الطعام، وهناك وقعت عينه على زوجته، وكأنه لم يراها من قبل.. وكأن عينه اكتحلت برؤيتها لأول مرة، مع أنه لم يفارقها أبدا طوال حياته الزوجية التي امتدت لأكثر من خمسة عشر عاما.. ترى ما هو السر في هذه اللوعة وذلك الاشتياق الذي يشعر به “سعيد” عندما يرى زوجته.. إنه الحب المفرط الذي يكنه “سعيد” لزوجته “وفاء”..
هناك على مائدة الطعام جلست “وفاء”، بياض ونضرة بشرتها يكاد يتنافس مع بياض ونصاعة الأطباق الصيني التي وضعت فيها بعض أصناف الطعام الذي يفضله “سعيد” على الإفطار.. من طعمية وبيض وقليل من الجبن..
روايات مصرية
غير أن جمال “وفاء” زوجة “سعيد” لم يكن هو الشيء الوحيد الذي جعل “سعيد” يحبها، بل كانت “وفاء” تجسيد حي لكل ما يحمله الاسم من معان، فهي الزوجة الوفية والمخلصة الراضية والصابرة، وغيرها من الصفات التي قلما تجتمع في ثلة من النساء فضلا على أن تجتمع في امرأة واحدة..
كان “سعيد” يقدر إخلاص ووفاء زوجته له وخاصة وهو يعلم أن عدم قدرتها على الإنجاب مرة ثانية كان هو سبب عذابها، وخاصة بعد أن أكد لهما الكثير من الأطباء أن الحمل والولادة خطر على حياة الزوجة “وفاء”، لذا فقد انقطع رجائها في الإنجاب مرة ثانية، وانقطع مع ذلك رجائها في إسعاد زوجها وتحقيق رغبته في إنجاب ولد يكون سندا لهما في المستقبل..
ترى ما هو السر الذي جعل تلك الزوجة التي حملت كل معاني اسمها من الوفاء والإخلاص لزوجتها تصبر على الارتباط بزوجها “سعيد” وتتمنى رضاه، وتحاول إسعاده بكافة الطرق حتى ولو على حساب صحتها…