رواية المشروع العجيب مكتوبة الفصل الخامس
مع رواية المشروع العجيب مكتوبة الفصل الخامس بعنوان فكرة عبقرية.
لم يصدق عادل الطحلاوي، المحامي الذي كان مختصًا بإنهاء إجراءات شراء الأرض، فتوكيل شراء الأرض كان صحيحًا، والتوكيل الذي قدمته المحامية ووكيله، ويدعى رفعت السنجري، المصري الجنسية، كان توكيلاً صحيحًا، ولكن كانت المفاجأة أن رفعت السنجري، الذي باع الأرض بالتوكيل الصحيح، ليس هو رفعت السنجري الوكيل الفعلي لمسيو فرانسوا بابير، بل هو شخص صاحب جواز سفر مزور، وأن إدارة الجوازات المصرية أكدت صحة أقوال مسيو فرانسوا بابير، وأن الصورة التي على جوز سفر الوكيل رفعت السنجري، هي صورة لرجل أخر، كما أكدت ذلك أيضًا وزارة الداخلية الفرنسية، وبذلك أقرت النيابة بأن البيع ليس صحيحًا؛ فالرجل المنتحل شخصية رفعت السنجري هو مجرم، ولكن ما جدوى اتهامه بالتزوير، ما دام الرجل قد اختفى، وقد قام بتحويل الشيك إلى رجل آخر أسترالي الجنسية، وأثبتت التحريات أن المبلغ (الأربعمائة وخمسون مليون جنيه) قد تحولت بالكامل إلى حساب هذا الرجل الأسترالي الجنسية، والأغرب من ذلك، أن التحريات قد أثبتت أن رفعت السنجري الحقيقي لم يدخل مصر منذ ثلاثة أعوام.
فشعر الحاج فهد أنه قد ضاع عليه كل رأسمال الشركة. قيمة الأرض التي سدد ثمنها، وهي الأربعمائة وخمسون مليون جنيه، بالإضافة إلى قيمة أعمال البناء التي أُقيمت عليها، وقدرها ثلاثمائة مليون جنيه، وبذلك، فإن الشركة قد تعرضت إلى كارثة وخسارة فادحة، قدرها سبعمائة وخمسون مليون جنيه مصري.
فكرة عبقرية
وكان الأصدقاء منذ أن تلقوا الخبر يحيطون بجاسر، الذي اعترته صدمة هائلة، وكان بين حين وآخر يثوب إلى رشده، ويسأل عن والده الذي انهار تمامًا، ونُقل إلى إحدى المستشفيات، وظل بها ثلاثة أيام كاملة، حتى استطاع الأطباء إنقاذه من حالة اختلال ضربات القلب والضغط التي أُصيب بها.
ولما غادر الحاج المستشفى، كان أول سؤال يسأله لكل من يقابله: هل استطعتم إلقاء القبض على المجرم الذي انتحل شخصية وكيل بابير المالك للأرض؟
وكان رجال المباحث، منذ إبلاغهم بجريمة النصب والاحتيال التي قام بها المجرم منتحل شخصية وكيل المالك، في حال من الجد الدؤوب للعثور عليه، كانت صورته في كل أقسام الشرطة، والمطارات، والموانئ، وكافة المنافذ البرية، التي تغادر منها السيارات الأراضي المصرية.
وكان رئيس مباحث الإسكندرية، الذي أُسند إليه التحقيق في هذه الجريمة، يزور مكتب الحاج فهد النابلسي، وكان هناك الأصدقاء الستة.
ظل رئيس المباحث يحدق في وجوههم في تساؤل، فلما أخبره الحاج بأنهم أصدقاء ابنه وزملاؤه بالكلية، صافحهم في وداعة، وبادر قائلاً للحاج:
ولكن الغريب أنه وحتى الآن لم يعثر رجالنا على أحد منهما داخل مصر، ضمن إحدى المجموعات السياحية.
فسأله الحاج في لهفة:
هل غادرها ضمن المجموعة المغادرة أصلاً؟
أجابه رئيس المباحث:
لا، لم يغادرها ضمن المجموعة، بل ولم يغادرها حتى الآن.
سادت لحظات صمت، قطعها حمدي مخاطبًا رئيس المباحث:
ولكن ما دام مجرم مثل الرجل الذي انتحل شخصية رفعت السنجري، وكيل بابير، لديه القدرة على تزور جواز السفر، فيُحتمل أن يكون قد غادر مصر بجواز مزيف آخر، تحت اسم آخر.
رانت علامات الدهشة على وجه رئيس المباحث، وبدا أنه فوجئ بهذا الأمر، وما كاد يُعْمل فكره في هذا الأمر، إذا بوليد يخاطبه هو الآخر:
ربما فعل الرجل الأسترالي مثله، فيُحتمل أنه قد غادر مصر تحت أي اسم.
فانتفض رئيس المباحث واقفًا، وقال:
عظيم يا أولادي.. عظيم، إنه احتمال قوي.
وأطرق يفكر لعدة ثوان، ثم هز رأسه، وقال:
ولكن صورهما على العموم تحت أعين رجالنا في المطارات، والموانئ، وكافة المنافذ، فلو كانا قد استطاعا تغيير اسميْهما، فلن يُغيرا صورتيهما.
قال ذلك وقام على الفور بالاتصال بمساعديه، وطلب منهم البحث عن صورة جميع من غادروا مصر في الفترة ما بين توقيع عقد شراء الأرض، وحتى اللحظة التي يتحدث فيها إليهم. ولكن، وبعد يومين فقط على حدوث ذلك، حمل إلى الحاج فهد معلومات تفيد بأن رجال المباحث قد عكفوا مع رجال الجوازات طوال يومين متواصلان، ولكنهما لم يعثروا على صورة الرجل الذي انتحل شخصية رفعت السنجري، ولا
الرجل الأسترالي من ضمنهم، ومعني ذلك أنهما مختفيان داخل مصر.
شعر الحاج فهد ومساعدوه بأن الموقف قد تعقد تمامًا.
وكان أُستَاذَي الاقتصاد والاجتماع قد عادا إلى مصر ليجتمعا بالحاج فهد؛ للوقوف على سير العمل، فما أن أخطرهما الحاج بما حدث، حتى أُصيبا بذهول تام.
قال أستاذ الاجتماع، بعدما استجمع شتات نفسه:
إن الأمر هكذا قد صار خطيرًا.
إلا أنهما في اليوم التالي كانا قد استعادا بعضًا من لياقتهما الذهنية، بعدما شعرا بأن هناك أمل في أن يقبض رجال المباحث على الرجلين المختفيين.
المفاجأة
وبعد يومين اجتمعا بالحاج فهد، وكان الحاج فاضل، والد حمدي، قد أقبل في زيارة ليطمئن على الموقف، ودعا حمدي أصدقاءه للحضور؛ لمؤازرة والد جاسر، فلم يلبث أن حضر الجميع.
كان الوجوم باديًا على الوجوه، فقد ساد بينهم جميعًا، شعور بأنه كلما تأخر رجال المباحث في القبض على المجرمين، كلما كانت فرصتهما في الهرب كبيرة، فقد يستطيع أعوانهما تدبير مخرج لهما، حتى لو أدي إلى إجراء جراحة، لتغير وجه كل منها ليهرب بسهولة من البلاد.
بيْد أنه فجأة، بزغت فكرة في رأس حمدي، فقال في حماس شديد:
لقد توصلت إلى فكرة قد تحل المشكل تمامًا.
فنظر إليه الجميع في شفف وتطلع!
ساد بين الجميع صمت تام، وتعلقت أنظارهم بحمدي في شغف هائل، فبادر قائلا:
إننا اشترينا الأرض من مسيو بابير بسعر المتر مائة وخمسين جنيه، فوافق الرجل على هذا الثمن، ولذلك ممكن أن نشتري الأرض مرة أخري من مسيو فرانسوا بابير.
فسأله والده الحاج فاضل، وهو لا يصدق:
ماذا تقول يا بني؟ وهل هذا حل؟! معني ذلك أنه سيضيع على الشركة الأربعمائة وخمسين مليون جنيه. إن ذلك يعني اعترافًا منّا بعدم وجود جريمة نصب.
فقال حمدي في تصميم:
نعم، فإننا بذلك سندفع أربعمائة وخمسين مليون جنيه، أي أننا نكون قد سددنا بذلك تسعمائة مليون جنيه، ولكننا وبعد اكتمال مشروع المكتبة، سنبيع الأرض التي بجانب المشروع بسبعمائة جنيه للمتر الواحد، أي بألفين ومائة مليون جنيه، ومعنى ذلك أننا سنربح ألفًا ومائتين مليون جنيه، بعد سداد قيمة
الأرض مرتين.
راح الجميع ينظرون إليه في دهشة، ولم يلبث أن تغيرت أسارير وجوههم، حيث ران عليها الإعجاب الشديد، وقال أستاذ الاقتصاد في إعجاب:
يالها من فكرة! إنها فكرة رائعة!
وما إن سمع الحاج فهد بذلك، حتى شعر وكأنما روحه قد رُدت إليه مرة أخري، فانتفض واقفًا، وشكر حمدي، وعانقه وهو في غبطة وسعادة، وقال:
لقد أنقذتني يا ولدي بهذه الفكرة.
ولم تمر إلا عدة ساعات فقط، حتى تم الاتصال بين الحاج فهد مسيو بابير، وعرض عليه الحاج أن يشتري منه الأرض مرة أخرى بتوكيل جديد منه لوكيله الحقيقي، فأمهله بابير مدة أسبوعين للتفكير، بيد أنه ما إن مرت ثلاثة أيام فقط، حتى اتصل به بابير، وأخبره بأنه يريد ثمنًا للمتر الواحد في الأرض ألف جنيه.
فوقع هذا الخبر على الحاج فهد كالصاعقة؛ فمعني ذلك أن الأمل قد تحطم تمامًا.
وعلق أستاذ الاجتماع في حزن دقيق:
لقد صار الأمر خطيرًا، فلا يوجد أمامنا من حل إلا من خلال القبض على المجرِمَين.
واعترت الأصدقاء حالة من الحزن والغم، وكان جاسر أشدهم حزنًا، ولم يعرف كيف يواسى والده، الذي ظهرت عليه علامات الانهيار الشديد.
وساد الصمت بين الجميع لمدة، فحطمه وليد، وهو يتساءل في حيرة:
هناك أمر يدعو إلى الشك والحيرة!
فلما نظر إليه الجميع في تساؤل، أردف قائلاً:
إن مسيو بابير هذا كان موافقًا على بيع الأرض بسعر المتر مائة وخمسين جنيهًا، وقد عمل توكيلاً لمحاميه الحقيقي لكي يبيع الأرض بِنَاء على هذا السعر، فلماذا عارضه في إعادة البيع بنفسي السعر، مع أنه كان من الطبيعي أن يوافق، ولو على سعر أقل؛ نظرًا لظروفنا.
أومأ أحد مساعدي الحاج فهد برأسه، وقال مؤكدًا:
فعلاً، إنه أمر يدعو إلى الحيرة والدهشة!
فعلق أستاذ الاقتصاد:
من المؤكد أنه فعل ذلك عندما أدرك لهفتنا على شراء الأرض.
ولكن، فوجئ الجميع بهادية تقول في لهجة تأكيد:
لقد تأكدت الآن من وجود نقطة كانت غائبة عنّا تمامًا.
نظر إليها الجميع في شغف، فأردفت قائلة:
لقد سمعت من جاسر أن الحاج فهد قد فوجئ بأحد سماسرة العقارات يأتيه، ويسأله إذا كان يرغب في شراء أرض مساحتها أكثر من ثلاثة كيلو متر مربع، مع أن الشركة لم تخبر أحدًا بأنها تحتاج إلى أرض.
فلما ظهر على وجوه الجميع أثر المفاجأة، وجعل الحاج فهد يُعْمل فكرة ليتذكر ما حدث، قال في دهشة وحيرة:
فعلاً، مع أننا لم نكن قد عرضنا فكرة شراء الأرض على أحد بعد، وخاصة أن أرضًا بهذه المساحة الهائلة لا يطلب أحد من الآخرين شرائها، إلا
من خلال إعلان بالجرائد.
فلما بدت أمارات الحيرة على وجوه الجميع، أردفت هادية قائلة:
إن الموضوع بذلك قد بان واضحًا، كيف عرف السمسار بأن هناك طلبًا على أرض بهذه المساحة الهائلة، مع أننا لم نعرض الموضوع على أحد؟ وكيف عرف ميسو بابير بفكرة مشروعنا، والذي مؤداه أن المكتبة سترفع قيمة الأرض التي حولها، ولذلك عرض علينا هذا السعر الباهظ جدًّا، فكل هذا لا يشير إلا لشيء واحد.
سألها الحاج في لهفة:
وما هو؟
هادية:
إن هناك فردًا يتجسس علينا، وهو الذي وافى السمسار بطلبنا لشراء الأرض، وهو الذي قام بإبلاغ مسيو بابير، بأن الأرض سيتضاعف سعرها بعد المشروع، ولذلك غير رأيه، ورفع سعر الأرض.
فنظر الجميع إلى بعضهم في دهشة.
أجمع كل الموجودين على أن أفضل حل هو اللجوء إلى رئيس المباحث، الذي أُسندت إليه عمليه اقتفاء أثر المجرمين، لإخطاره بما حدث من وجود شخص يقوم بالتجسس، ونقل الأخبار. فما إن ذهب الحاج فهد إلى مكتب رئيس المباحث، وروى له ما حدث، حتى قام على الفور باستدعاء السمسار، ومن خلال التحقيق معه، صرح له الرجل بأنه كان لا يعرف شيئًا عن موضوع الأرض، ولكن جاره رجل في منتصف الأربعينات، وأبلغه بأن هناك شركة ترغب في شراء أرض هائلة المساحة، لا تقل عن ثلاثة كيلو مترات لعمل مشروع كبير.
وعقّب السمسار قائلاً في حيرة:
ولكن الأمر الذي جعلني أُصاب بدهشة شديدة، هو أن الرجل نفسه أخطرني بوجود أرض يمتلكها فرنسي يُدعى مسيو بابير، كان سيقيم عليها مشروعًا ضخمًا لصناعة السيارات، ولكن شركائه اختلفوا معه فتوقف المشروع.
وتوقف الرجل، وهز رأسه في حيرة، واستطرد قائلاً:
فانتابني الشك، ولم أُصدق الرجل، وسألته: لماذا تطلب مني ذلك، مع أنك تعرف المشتري والبائع معًا؟
سأله رئيس المباحث، وقد ازدادت حيرته:
فعلاً.. إن هذا أمر غير منطقي؟
فأجاب السمسار:
فلما سألته: لماذا لا تتوسط أنت؟ فقال: إنه يعرف الطرفين معًا، ولكن حساسية مركزه تحول دون ذلك، وكل ما يريده مليونا جنيه فقط من عمولة المكتب عن السمسرة في هذه العملية.
سكت السمسار، ولم يلبث أن أردف قائلاً:
ولذلك ذهبت أولاً إلى مكتب الحاج فهد النابلسي، لكي أخبره بوجود الأرض، ولما وجدت أنه جاء فعلاً لطلبها، أسرعت، واتصلت بالرجل الفرنسي مالك الأرض، حسب رقم التليفون الذي وافاني به الرجل الذي زارني، وبذلك أتممت الصفقة.
سأله رئيس المباحث:
وهل جاء الرجل مرة ثانية ليقبض نصيبه من العمولة؟
فأجاب السمسار على الفور:
نعم، ولكن اشترط أن أسدِّد له المليوني جنيه نقدًا؛ لأن الشيك سيفضح أمره، ويعرف الطرفان أنه وراء هذه الصفقة، وبعدها قام رئيس المباحث، وعرض على السمسار صورة الرجل الذي انتحل شخصية رفعت السنجري، فلما رآه السمسار اندفع قائلاً: هو.. إنه هو الرجل الذي أخطرني بموضوع الأرض.
وفي مساء اليوم، اجتمع رئيس المباحث بالحاج فهد في مكتب الشركة، وما إن علم الأصدقاء بحضور رئيس المباحث، حتى أسرعوا للمشاركة في الحوار.
بادر رئيس المباحث قائلاً:
لقد اتضح لنا جزء كبير من الجريمة التي تم تدبيرها.
إن رفعت السنجري هذا هو الذي قام بتدبير الدور الكبير في ارتكابها، وهو الذي قام بإبلاغ السمسار ليكون شكل البيع قانوني، وهو الذي سرق التوكيل ليبيع به الأرض، ويقبض ثمنها لصالحه.
فراح الجميع يفكر لمدة طويلة في أمر هذا الرجل منتحل شخصية رفعت السنجري، فساد المكتبَ الصمتُ التام، ولكن قطعتها لمياء قائلة:
ولكن، إن تحريات رجال المباحث، واشتراكهم مع إدارة الجوازات، أثبتت أن الرجل الذي انتحل شخصية رفعت السنجري هذا لم يكن في فرنسا؛ لأنه لم يثبت عليه أنه دخل مصر إطلاقًا منذ عمل مسيو بابير للتوكيل، فربما أن أحدًا قد قام بسرقة التوكيل من محامي بابير، رفعت السنجري الأصلي، والموجود بفرنسا.
قال الحاج فهد بعد تفكير:
فعلاً؛ لأن التوكيل المقدم غير مزور، وذلك بشهادة خبراء الشهر العقاري، وخبراء الخطوط أنفسهم.
قال وليد:
معني ذلك أن الرجل الأسترالي هو الذي قام بسرقة التوكيل، وحضر إلى مصر ليقدمه إلى المجرم، الذي انتحل شخصية رفعت السنجري، فقام بتزوير جواز السفر، لكي تكون بياناته هي بيانات رفعت السنجري، وبذلك يكون العقد قانونيًّا، رغم أن الهدف هو السرقة والغش.
وفجأة، بَدَا لجاسر شيء، فتساءل في حيرة شديدة:
هناك نقطة تدعو إلى الحيرة والتفكير.
سأله والده في لهفة:
ما هي؟
فقال جاسر:
الرجل الأسترالي هذا، هو شريك في عملية السرقة، ولذلك حوَّل الرصيد إلى البنك في أستراليا، والمفروض أن العملية قد تمت بذلك، فلماذا لم يسافر بعدها إلى أستراليا؟ فهل يمكن لفرد أن يقوم بالسرقة في بلد غير بلده، ورغم ذلك يستمر في هذه البلد؟
أبدى رئيس المباحث إعجابه قائلاً:
فعلاً، إنها ملاحظة في غاية الخطورة.
بَيْد أنه توقف فجأة، فقد عَنَّ له شيء، فشَرَدَ قليلاً، وقال وسط شروده:
فكرة.. ولكن.
فسأله الحاج فهد في لهفة:
ولكن ماذا؟
رئيس المباحث:
لو أن هذا الرجل كان مختبئًا في مصر، فالمفروض ألا يختبئ إلا في دار للمواطنين الأجانب المقيمين في مصر، بما فيهم الطلبة الأجانب الذين يدرسون هنا.
وتوقف، وأطلق زفرة حادة، وأردف قائلاً في يأس:
ولكن للأسف، لم يُسفر كل ذلك عن شيء.
فصاح طلال في حيرة وشك:
لكنني أشك في أمر ما.
التفت إليه رئيس المباحث، وسأله في حيرة:
وما هو؟
طلال:
طالما أن الرجل الأجنبي لم يسافر، بالرغم من انتهاء مهمته، وتحويل رصيد البنك إليه، فمن المحتمل جدًّا أن يكون هذا الرجل مختطفًا.
فسأله وليد، وهو لا يصدق:
ماذا تقول؟
طلال في إصرار وتأكيد:
نعم، فهناك من له مصلحة في اختطافه.
سأله الحاج فهد في دهشة شديدة:
ومن يكون؟
قال طلال في تأكيد:
الرجل نفسه الذي انتحل شخصية رفعت السنجري.
راح الجميع يحدّق في طلال، وهمْ في دهشة لمدة طويلة، فقال موضحًا.
إن الرجل كان يمكنه السفر بعدما أنهى مهمته، وأضاف قيمة شراء الأرض إلى حسابه، فمن المؤكد أنه لو كان هناك اتفاق بينه وبين منتحل شخصية رفعت السنجري، فإن رجلاً بمثل هذه الشخصية لن يتعد في أحد، فهو من المؤكد قد اختطفه، ولن يتركه يهرب بالغنيمة، إلا لو أضاف إليه نصيبه، وهذا النصيب من المؤكد قد يكون في شكل سحب شيك لصالحه من حساب الرجل الأسترالي، وهذا لم يحدث حتى الآن كما علمنا من رجال المباحث.
فراح الجميع يفكر في الأمر، وخيّم الصمت على المكان تمامًا، وقطعه رئيس المباحث قائلاً، وكأنه يفكر بصوت مرتفع.
لو كان هذا الاحتمال صحيحًا، وكان الرجل مختطفًا لدى منتحل شخصية رفعت السنجري هذا، فإن هذا الأمر سيغير خطتنا رأسًا على عقب.
فلما نظر إليه الحاج فهد متسائلاً، قال مفسرًا:
نعم، فإن خطتنا في البحث عن المجرم قائمة على البحث في مساكن الأجانب، والمساكن المفروشة التي يقطنها الأجانب، ولكنها بذلك صارت لا جدوى لها؛ لأن المختطف مصري، وبالتالي ستكون إقامته لدى أُناس مصريين، وهذا يعني أن نطاق التفتيش والبحث سيشمل مصر كلها، ومن هنا تعقدت المشكلة كثيرًا.
فصاح الحاج فهد في قلق وجزع:
ولكن، إن الأمر الوحيد أمامنا هو القبض على المجرمين، فلو قبضنا على أحدهما سيرشدنا إلى مكان الآخر، بل وربما قد يوجد آخرون، أما الآن، فالبحث عن المجرم قد صار وهمًا، وسكت، ثم أردف، وقد تلاحقت أنفاسه:
ولو لم نعثر على هؤلاء، فسيضيع أملنا، ويضيع ثلاثة أو أربعة مليارات جنيه.
أطبق الصمت على المكان مرة أخرى، وقطع صوت جرس المحمول الخاص برئيس المباحث الصمت، فلما تلقي المكالمة، قام على الفور مستأذنًا في مغادرة المكان، تاركًا الجميع وهم في حالة من الحزن والحيرة، وخاصة الحاج فهد، والذي تقلص وجه من فرط الحزن والخوف العميق.
وعَنَّ لحمدي أمر، فتساءل فجاءة:
توجد نقطة قد غابت عن خاطرنا تمامًا.
سألته هادية في حيرة:
وما هي؟
حمدي:
كيف عرف منتحل شخصية رفعت السنجري أصلاً بفكرة مشروعنا؟! فنحن قد تحدثنا فقط عن طريقته في تدبير الجريمة، ولكن من أين حصل على المعلومات عن المشروع؟
صاحت هادية في حماسة، كمن وجد مخرجًا للمأزق الخطير:
فعلاً، لابد أن هناك شخصًا ما، هو الذي قام بنقل المعلومات إلى منتحل شخصية رفعت السنجري هذا.
وعقّب وليد قائلاً:
وخاصة أن المعلومات لم تخرج عن دائرة أستاذة الجامعة الأمريكية، ومساعد الحاج، ونحن؛ حيث لم نتحدث في هذا المشروع إلا بعد أن غادر التجار المكان.
راح كل منهم يفكر في حيرة، وبادر الحاج فهد قائلاً:
أما المساعدون بالمكتب، فقد كانوا حريصين تمامًا على ألا يتم نقل الفكرة لأحد، كما أن أستاذة الجامعة الأربعة هم أصحاب المصلحة في نجاح المشروع، فقد اتفقت معهم على أن أمنح كل منهم خمسة % سنويًّا من أرباح المشروع، بالإضافة إلى نفس النسبة في حالة الربح من بيع الأرض التي حوله، وهذا يتيح لهم عائدًا ضخمًا، يجعلهم هم الذين يحرصون على نجاح المشروع؛ لأنه لو فشل هذا المشروع، فسيضيع عليهم هذا العائد الضخم. فاندفع جاسر قائلاً:
ونحن جميعًا طبعًا لا يمكن أن يتطرق الشك إلى أحدنا، فأومأ والده مؤكدًا:
طبعًا.. طبعًا.
قالت لمياء:
لا يوجد أمامنا سوى..
وتوقفت فجأة، وأشارت نحو عم فرّاج، ساعي المكتب، الذي كان قد أعطاهم ظهره، وهو مشغول بصنع الشراب للجميع، وطلب منه الحاج أن يشتري الشطائر من محل مشهور على ناصية الشارع، ولما تناول منه الرجل النقود للشراء، وغادر المكتب، التفت الحاج إلى لمياء، وقال:
إنني لا أتصور أبدًا أن يقوم فرّاج الساعي بنقل الأخبار، وهذا ليس من باب الأمانة؛ لأنه لم يعمل معي لمدة طويلة لكي أحكم عليه، ولكن لأنه لا يجيد مجرد القراءة والكتابة، وبالتالي لن يدرك طبيعة ما دار من حديث، ولكن..
اعترضت هادية قائلة:
إن الأمور كلها تشير إلى أن هناك شخص، لا ريب، هو الذي قام بنقل ما دار من حديث بين الجميع، وحضرتك يا عمو أثبت بما لا يقطع الشك، أن مصلحة أساتذة الجامعة أصحاب فكرة المشروع، تجعلهم يخشون من مجرد وجود خلل بالمشروع، فمحال تدبيره، وبذلك لا نجد أمامنا أحد من الموجودين وقت الحوار سوي عم فرّاج.
أومأ الحاج برأسه، وقال في حيرة:
نعم فقد كان ؟؟؟؟؟؟
الساعي الآخر غائبًا في هذا اليوم، أما الساعي الثاني سعدون، فقد أرسلته يومها في مأمورية لم يعد منها سوى في اليوم التالي.
قال حمدي في حيرة:
من المؤكد أن عم فرّاج لم يدرك أبعاد الأفكار التي طرحها الأساتذة أثناء الجلسة، ولكن يُحتمل أنه قد قام بنقل بعض العبارات التي دارت في الاجتماع إلى أحد من أقاربه، أو معارفه، فكانت الخيط الذي أفضى إلى تدبير هذه الجريمة.
فكر الحاج فهد لحظات، ثم قال:
هذا احتمال.
فاتفق الجميع على أن يقوم حمدي ووليد في اليوم التالي بمراقبة عم فراج، بعد أن يتنكروا تمامًا؛ حتى لا يشعر بهما.
وعلى الفور، أسرع حمدي ووليد إلى مكان أقامتهما بالقرية، وفي اليوم التالي، كانا يقفان بالقرب من باب العمارة التي يوجد بها مكتب الحاج فهد، استعدادًا لمراقبة عم فرّاج فور مغادرته المكتب، وظلا ينتظرانه حتى وصلتهم الإشارة على المحمول الخاص بوليد، والتي كانوا قد اتفقوا على إرسالها فور مغادرة عم فرّاج المكان.
كانت مراقبة عم فرّاج من أشق المهام التي واجهها حمدي ووليد؛ فبالرغم من أن الرجل كان بطيئًا في سيره؛ لضعفه، وكبر سنه، لكنه وقف لمدة طويلة في انتظار الأتوبيس الذي ينقله إلى مسكنه، وكان الأتوبيس مزدحمًا تمامًا، فظلا يراقبانه، وهما يقفان في صعوبة بالغة وسط زحام شديد من الركاب، بالقرب من باب الركوب، وكان الأتوبيس كلما يتوقف عند إحدى المحطات يدخل بعض الركاب، فيحدثون مزيدًا من الاختناق إلى الزحام الموجود، وبعد عدة محطات، وصل الزحام إلى ذروة كثافته، فجعل وليد وحمدي يستعيدان توازنهم بصعوبة، فيصعب عليهما في كل مرة تتبع وجود عم فرّاج.
وفجأة، وفي أثر دخول بعض الركاب الجدد، فوجِئا بعد أن هدأت الجلبة باختفاء عم فرّاج، فعادا أدرجهما، وهما على مضض، ولكنهما أقدما على معاودة المحاولة في اليوم التالي، وأفلحا أخيرًا في اللحاق به، وهو يغادر الأتوبيس وسط الزحام الشديد.
وكان المكان الذي دخله الرجل غريبًا، فقد دخل في شاطئ مزدحم بالسكان، ثم عرج الرجل على حارة ضيقة، ودلف منها على زقاق يفضي إلى مكان آخر، فشعرا بحرج شديد؛ حيث لاحظا أن عيون أهل المكان ترقبهما، فقد بدا غريبان عن المكان الذي يعرف جميع ساكنيه بعضهم بعضًا، ومما زاد من حرجها، أنه لا يوجد مقهى أو محل يستطيعا من خلالهما الوقوف لمراقبته، فاضطرا إلى تكرار المحاولة ليومين آخرين، إلا أنه، وفي اليوم الثالث، استطاعا التعرف على شاب صغير في المرحلة الثانوية، يقطن في الشقة المجاورة لشقة عم فرّاج، فاستطاعا من خلال حديثهما معه الحصول على معلومات في غاية الأهمية، فعم فرّاج ليس له أبناء، أو أقارب متعلمين، أو حتى معارف، وكل حياته قاصرة على وجوده مع زوجته المريضة، وهي امرأة مسنّة وأميّة.
أما دائرة معارفه، فلا تعدوا العجلاتي الذي يزحم الزقاق الضيق بالعجل، الذي يقوم بتأجيره للأولاد، أما صاحبه الآخر، فهو صاحب معمل صغير للمخلل والطرشي، ولكن، ما كادت الأمور تتعقد تمامًا، وصار الشخص الذي قام بنقل ما دار من حديث إلى العصابة لغزًا غامضًا، إذا برئيس المباحث يقبل فجأة، ويبادر الجميع قائلاً:
لقد فاتنا أن نضع تحت أعيننا الشخصية التي لها المصلحة الكبرى في سرقة قيمة الأرض، ويُحتمل أنها المحرك الأساسي فيما يحدث.
فلما نظر إليه الجميع في تساؤل ولهفة، قال:
مسيو فرانسيوا بابير نفسه!
فأصيب الجميع بدهشة شديدة.
***