جابر بن عبد الله صَاحِبُ الطَّعَامِ المُبَارَكِ (رَضِي اللهُ عَنْهُ)

 

جابر بن عبد الله

جابر بن عبد الله

 لَمْ يُشَارِكْ “رَضِيَ اللهُ عَنْهُ” فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ؛ لأنَّ النّبِيَّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَد اسْتَصْغَرَهُ، فَرَدَّهُ مَعَ مَنْ رَدَّ مِنْ صِغَارِ الصّحَابَةِ.

لَمَّا حَدَثَتْ غَزْوَةُ أُحُدٍ، لَمْ يَتَمَكَّنْ جَابِرٌ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) مِنْ حَمْلِ السّيفِ وَمُوَاجَهَةِ أَعْدَاءِ اللهِ؛ ذَلِكَ لأَنَّ عُودَهُ لَمْ يَكُنْ قَدِ اشْتَدَّ بَعْدُ، هَذَا مِنْ نَاحِيَةٍ، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّ أَبَاهُ عَبْدَ اللهِ بنَ حَرَامٍ (وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الصّحَابَةِ)، كَانَ قَدْ دَعَاهُ إِلَيْهِ لَيْلَةَ أُحُدٍ، وَقَالَ لَهُ:

 ـ مَا أَرَانِي إِلا مَقْتُولاً فِي أَوَّلِ مَنْ يُقتَلُ مِنْ أَصحَابِ النّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَإِنِّي لا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيّ مِنْكَ غَيرَ نَفْسِ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَإِنّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ وَاسْتَوصِ بِأَخَواتِكَ خَيْرًا.

يَقُولُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ):

فَأَصْبَحْنَا، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيْلٍ، وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ، هَيْئَتُهُ غَيْرُ أُذُنَيْهِِ”.

*  *  *

وَلَقَدْ ذَهَبَ جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ (رَضِيَ اللهُ عَنهُ) إِلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَشْكُوَ إليهِ حَالَهُ
قَائِلاً لَهُ:

ـ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبِي تَرَكَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أَفِيْهِ بِهِ إِلا مَا يُخْرِجُهُ ثَمَرُ نَخِيْلِهِ، وَلُو عَمَدتُ إِلَى وَفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَرِ، لَمَا أَدَّيْتُهُ فِي سِنِيْنَ، وَلا مَالَ لأَخََوَاتِي أُنْفِقُ عَلَيْهِنَّ مِنْهُ غَيْرَ هَذَا.

يَقُولُ أيْضًا (رَضِي اللهُ عَنْهُ):

فَقَامَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَضَى مَعِي إِلَى بَيْدَرِ تَمْرِنَا، وَقَالَ لِي:

“ادْعُ غُرَمَاءَ أَبِيْكَ”.

فَدَعَوتُهُم.

فَمَا زَالَ يَكِيْلُ لَهُم مِنْهُ حَتَّى أَدَّى اللهُ عَنْ أَبِي دَيْنَهُ كُلَّهُ مِنْ تَمْرِ تِلْكَ السّنَةِ، ثُمَّ إِنِّي نَظَرتُ إِلَى البَيْدَرِ فَوَجَدتُهُ كَمَا هُوَ، كَأَنَّهُ لَمْ تَنقُصْ مِنْهُ تَمْرَةٌ وَاحِدَةٌ.

*  *  *

وَلَقَد كَانَ الصّحَابِيُّ الجَلِيْلُ جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ (رَضِيَ اللهُ عَنهُ) نِعْمَ الأَخُ وَالشّقِيْقُ لأَخَوَاتِهِ البَنَاتِ؛ فَقَامَ عَلَى خِدْمَتِهِنَّ كَمَا يَنْبَغِي، عَامِلاً بِوَصِيَّةِ وَالِدِهِ الذِي رَحَلَ، ومُحَاوِلاً أَنْ يُقَدِّمَ إِلَيْهِنَّ كُلَّ مَا يَسْتَطِيْعُ. وَلَمَّا اشْتَدَّ عُودُهُ وَبَلَغَ مَبْلَغَ الشَّبَابِ، لَمْ يُفَكِّرْ فِي الزّوَاجِ مِنْ فَتَاةٍ صَغِيْرَةٍ تَكُوْنُ بِكْرًا (أَي: لَمْ يَسْبِقْ لَهَا الزّوَاجُ مِنْ قَبْلُ)، لَكِنَّهُ قَدَّمَ مَصْلَحَةَ شَقِيْقَاتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَ جُلُّ اهتِمَامِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ صَالِحَةٍ تَسْتَطِيْعُ أَنْ تُعِيْنَهُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ، كَمَا تَسْتَطِيْعُ أَنْ تُسَاعِدَهُ فِي تَرْبِيَةِ هَؤلاءِ الشّقِيْقَاتِ، وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ وَتُصْلِحُهُنَّ.

فَلَمَّا عَلِمَ النّبِيُّ بِذَلِكَ قَالَ لَهُ:

ـبَارَكَ اللهُ لَكَ.

لَقَدْ كَانَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) مِنْ هَؤلاءِ الصّحْبِ الكِرَامِ الذِيْنَ أَحَبُّوا النّبِيَّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُبًّا مَلَكَ عَلِيْهِم كُلَّ جَوَانِحِهِمْ، وَصَارَتْ أَفئِدَتُهُم أَسِيْرَةً لِمَشِِيْئَتِهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ يُلازِمُهُ مُلازَمَةَ المَاءِ لِلعُوْدِ الأَخْضَرِ، وَالعِيْنِ لأُخْتِهَا، وَيَدُورُ فِي فَلَكِهِ أَيْنَمَا دَارَ، لا يُفَارِقُهُ إِلا للنَّوْمِ أَوْ لأَمْرٍ جَلَلٍ.

وَقَدْ بَادَلَهُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُبًّا بِحُبٍّ، فَكَانَ يُدْنِيْهِ مِنْهُ، وَيَتَوَدَّدُ إِلَيْهِ، وَيَسْأَلُ دَائِمًا عَنْ أَخْبَارِهِ
لِلاطْمِئنَانِ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ حُسْنِ أَخْلاقِهِ الكَرِيْمَةِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّا كَانَ يُدْخِلُ البَهْجَةَ وَالسُّرُورَ عَلَى قُلُوبِ أَصْحَابِهِ الأَجِلاَّءِ (رِضْوَانُ اللهِ عَلَيهِمْ جَمِيْعًا).

*  *  *

وَلَقَدْ كَانَ جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ- رَضِيَ اللهُ عَنهُ- مِنْ أَعْلامِ الصَّحَابِةِ فِي حِفْظِ الأَحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ، وَكَانَ مَلْجَأً
لِمُعْظَمِ العُلَمَاءِ مِنْ مُخْتَلَفِ الأَمْصَارِ، يَأتُوْنَ إِلَيْهِ، وَيَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ العِلْمَ الذِي أَخَذَهُ عَنِ النّبِي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَرْوِي لَهُم الأَحَادِيْثَ، حَتَّى بَلَغَ مَا حَفِظَهُ مِنْهَا مَا يُقَارِبُ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةِ حَدِيْثٍ.

حَفِظَ الكَثِيْرَ مِنَ السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، وَأَعْلَمَنَا بِالكَثِيْرِ مِنَ الأَحْدَاثِ التِي حَدَثَتْ فِي العَهْدِ النّبَوِيِّ الشّرِيْفِ. وَهَاكُم مَوْقِفٌ مِنَ المَوَاقِفِ الرّائِعَةِ الّتِي حَدَثَتْ مَعَهُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي غَزْوَةِ الأَحْزَابِ.
يَقُولُ:

“كُنّا يَوْمَ الخَنْدَقِ، فَعَرَضَتْ لَنَا صَخْرَةٌ شَدِيْدَةٌ عَجَزْنَا عَنْ تَحْطِيْمِهَا، فَجِئْنَا إِلَى الرّسُولِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقُلْنَا:

ـ يَا نَبِيَّ اللهِ، لَقَدْ وَقَفَتْ فِي سَبِيْلِنَا صَخْرَةٌ صَلْدَةٌ، وَلَمْ تَفْعَلْ مَعَاوِلُنَا فِيْهَا شَيْئًا.

فَقَالَ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):

ـ دَعُوهَا، فَإِنّي نَازِلٌ إِلَيْهَا.

ثُمّ قَامَ، وَكَانَ بَطْنُهُ مَعْصُوبًا بِحَجَرٍ مِنْ شِدَّةِ الجُوعِ؛ ذَلِكَ لأَنَّنَا كُنَّا أَمْضَيْنَا أَيَّامًا ثَلاثَةً لَمْ نَذُقْ خِلالَهَا طَعَامًا، فَأَخَذَ النّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  المِعْوَلَ، وَضَرَبَ الصّخْرَةَ، فَغَدَتْ كَثِيْبًا مَهِيْلاً. عِنْدَ ذَلِكَ ازْدَادَ أَسَايَ عَلَى مَا أَصَابَ الرَّسُولَ الأَعْظَمَ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الجُوعِ؛ فَاتّجَهتُ إِلَيْهِ، وَقُلْتُ:

ـ أَتَأَذَنُ لِي يَا رَسُولَ اللهِ بِالمُضِيِّ إِلَى بَيْتِي؟

فَقَالَ:

ـ امْضِ.

فَلَمَّا بَلَغْتُ البَيْتَ قُلْتُ لامْرَأتِي: لَقَدْ رَأيْتُ بِرَسُولِ اللهِ مِنْ مَرَارَةِ الجُوعِ مَا لا يَصْبِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ البَشَرِ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيءٍ؟

قَالَتْ:

ـ عِنْدِي قَلِيْلٌ مِنَ الشَّعِيْرِ، وَشَاةٌ صَغِيْرَةٌ.

فَقُمْتُ إِلَى الشَّاةِ فَذَبَحْتُهَا وَقَطَّعْتُهَا، وَجَعَلْتُهَا فِِي القِدْرِ، وَأَخَذْتُ الشَّعِيْرَ فَطَحَنْتُهُ وَدَفَعْتُهُ إِلَى امْرَأَتِي، فَعَجَنَتْهُ، فَلَمَّا وَجَدتُ أَنَّ اللحْمَ كَادَ يَنْضُجُ، وَأَنَّ العَجِيْنَ قَدْ لانَ، وَأَوْشَكَ أَنْ يَخْتَمِرَ، مَضَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقُلْتُ لَهُ:

ـ طَعَامٌ صَنَعْنَاهُ لَكَ يَا نَبِيَّ اللهِ، فَقُمْ أَنْتَ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلانِ مَعَكَ.

فَقَالَ:

ـ كَمْ هُوَ؟

فَوَصَفْتُهُ لَهُ.

فَلَمَّا عَلِمَ النّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمِقْدَارِ الطَّعَامِ- قَالَ:

ـ يَا أَهْلَ الخَنْدَقِ، قَدْ صُنِعَ لَكُمْ طَعَامٌ فَهَلُمَّ إِلَيْهِ.

ثَمَّ التَفَتَ إِلَيَّ وَقَالَ:

ـ امْضِ إِلَى زَوْجَتِكَ وَقُلْ لَهَا: “لا تُنْزِلِي قِدْرَكِ، وَلا تَخْبِزَي عَجِيْنَكِ حَتَّي أَجِيءَ، فَمَضَيْتُ إِلَى البَيْتِ، وَقَدْ رَكَبَنِي مِنَ الهَمِّ وَالحَيَاءِ مَا لا يَعْلَمُهُ إِلا اللهُ، وَجَعَلْتُ أَقُوْلُ:

ـ أَيَجِيْئُنَا أَهْلُ الخَنْدَقِ عَلَى صَاعٍ مِنْ شَعِيْرٍ وَشَاةٍ صَغِيْرَةٍ؟!

ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى امْرَأتِي، وَقُلْتُ:

ـ وَيْحَكِ.. لَقَدِ افتَضَحْتُ؛ فَرَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَيَأتِيْنَا بِأَهْلِ الخَنْدَقِ أَجْمَعِيْنَ.

فَقَالَتْ:

ـ هَلْ سَأَلَكَ: كَمْ طَعَامُكَ؟

قُلْتُ:

ـ نَعَمْ.

فَقَالَتْ:

ـ سَرِّ عَنْ نَفْسِكَ، فاللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

فَكَشَفَتْ عَنِّي غَمًّا شَدِيْدًا بِمَقَالَتِهَا تِلْكَ، وَمَا هُوَ إِلا قَلِيْلٌ حَتَّى أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ الأَنْصَارُ والمُهاجِرُونَ، فَقَالَ لَهُمْ:

ـ ادْخُلُوا، وَلا تَزْدِحِمُوا.

ثُمَّ قَالَ لامْرَأتِي:

ـ هَاتِ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ، واغْرِفِي مِنْ قِدْرِكِ وَلا تُنْزِلِيْهَا عَنِ المَوْقِدِ! ثُمَّ طَفِقَ يَكْسِرُ الخُبْزَ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللحْمَ، وَيفْرِيهِ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَهُم يَأكُلُونَ، حَتَّى شَبِعُوا جَمِيْعًا.

ثُمَّ أَرْدَفَ الصَّحَابِيُّ الجَلِيْلُ قَائِلاً:

ـ أُقْسِمُ بِاللهِ العَظِيْمِ أَنَّهُم انْفَضُّوا عَنِ الطّعَامِ، وَأَنَّ قِدْرَنَا لَتَفُورُ مُمْتَلِئَةً كَمَا هِيَ، وَأَنَّ عَجِيْنَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لامْرَأتِي:

ـ كُلِي، واهْدِي!

فَأَكَلَتْ، وَجَعَلَتْ تُهْدِي سَحَابَةَ ذَلِكَ اليَوْمِ كُلِّهِ.

فَرَضِيَ اللهُ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ، وَعَنْ سَائِرِ الصّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ.

اقرأ سيرة هؤلاء الصحابة

عروة بن الزبير

عَمْرو بن العَاصِ

خَالِد بن الوَلِيْدِ

جَابِر بن عَبْدِ اللهِ الأَنصَارِيُّ

معَاذ بن جَبَلٍ

سَعْد بن معَاذٍ

مصْعَب بن عمَيْرٍٍ

قصة بنى الله إبراهيم

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال