معاذ بن جبل العَالِمُ الفَقِيهُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)

 

معاذ بن جبل

معاذ بن جبل

بقلم محمد المطارقي

إنَّ مُعَاذًا كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيْفًا، وَلَقَدْ كُنَّا نُشَبِّهُ مُعَاذًا بِإبْرَاهِيمَ عَلَيهِ السَّلامُ. (عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ).

مَا كَادَ الظّلامُ يُسدِلُ سَتَائِرَهُ الكَثِيْفَةَ، حَتَّى بَدَأَ القَوْمُ يَتَسَلَّلُونَ مِنْ رِحَالِهِمْ، الوَاحِدُ تِلوَ الآخَرِ، تَسَلُّلَ القَطَا، مُسْتَخْفِيْنَ مِنْ قَوْمِهِم حَتَّى اجتَمَعُوا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ العَقَبَةِ. هُم ثَلاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلاً وَامْرَأتَانِ.. حِزْمَةٌ وَاحِدَةٌ رَاحَتْ تَنْتَظِرُ مَجِيءَ النّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  لِيُبَايعُوهُ البَيْعَةَ الثّانِيَةَ.

وَجَاءَ النّبِيُّ وَبِصُحْبَتِهِ عَمُّهُ العَبَّاسُ، وَالذِي لَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْلَمَ بَعْد، وَرَاحَ يُخَاطِبُ الجَمْعَ قَائِلاً:

“يَا مَعْشَرَ الخَزْرَجِ، إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا فِيْهِ، فَهُوَ فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَنْعَةٍ فِي بَلَدِهِ، وَإِنَّهُ قَدْ أَبَى إِلا الانْحِيَازَ إِلَيْكُم واللُّحُوقَ بِكُم، فَإِنْ كُنْتُم تَرَونَ أَنَّكُم وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعُوتُمُوهُ إِِلَيْهِ، وَمَانِعُوهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، فَأَنْتُم وَمَا تَحَمَّلْتُم مِنْ ذَلِكَ.
وَإِنْ كُنْتُم تَرَوْنَ أَنَّكُم مُسَلِّمُوهُ وَخَاذِلُوهُ بَعْدَ الخُرُوجِ بِهِ إِلَيْكُم، فَمِنَ الآنَ فَدَعُوهُ، فَإِنَّهُ فِي عِزٍّ وَمَنْعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ
وَبَلَدِهِ”.

مَا كَادَ العَبَّاسَ يَفْرُغُ مِنْ كَلِمَتِهِ حَتَّى أَسْرَع القَومُ نَحْوَ النّبِيِّ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الكَلامَ، قَائِلِيْنَ لَهُ:

ـ تَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ وَلِرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ.

*  *  *

إِنَّهَا القُلُوبُ الّتِي تَطَهَّرَتْ وَصَارَتْ مُمْتَلِئَةً بِنُورِ اليَقِيْنِ والإِيْمَانِ بِهَذَا الدِّيْنِ.

وَقَدِ انبَرَى جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَائِلاً:

ـ يَا رَسُولَ اللهِ، عَلامَ نُبَايعُكَ؟

قَالَ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):

§                   عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النّشَاطِ والكَسَلِ.

§                   وَعَلَى النّفَقَةِ فِي العُسْرِ وَاليُسْرِ.

§                   وَعَلَى أَنْ تَقُومُوا فِي اللهِ، لا تَأخُذُكُم فِي اللهِ لَوْمَةُ لائِمٍ.

§                   وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ إِلَيْكُم، وَتَمْنَعُونَِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُم وَأَزْوَاجَكُم وَأَبنَاءَكُم، وَلَكُمُ الجَنَّةُ.

فَأَخَذَ البَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ:

ـ نَعَمْ، وَالذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ نَبِيًّا لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَزْرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَنَحْنُ وَاللهِ أَبْنَاءُ الحَرْبِ وَأَهْلُ الحَلَقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ.

هُنَا اعْتَرَضَ أَبُو الهَيْثَمِ بنُ التَيْهَانِ، فَقَالَ:

ـ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالاً، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا- يَعْنِي اليَهُوْدَ- فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللهُ، أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ؟

ابْتَسَمَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، ثُمَّ قَالَ:

ـ بَلِ الدّمَ الدّمَ، الهَدْمَ الهَدْمَ.. أَنَا مِنْكُم وَأَنْتُم مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُم، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُم.

وابْتَدَأتِ البَيْعَةُ، فَقَامَ الرِّجَالُ يُصَافِحُونَ النَّبِيَّ، وَيَشْهَدُوْنَ شَهَادَةَ الحَقِّ، وَيُقِرُّوْنَ البَيْعَةَ.

*  *  *

فِي هَذِهِ اللحَظَاتِ، امْتَدَّتْ يَدٌ لِفَتًى وَضِيءٍ، بَدِيْعِ الصُّورَةِ، مُتَّسِقِ المَلامِحِ، بَسَّامِّ الثَّنَايَا، لَمْ يَتَجَاوَزِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ.. امْتَدَّتْ يَدُهُ الفَتِِيَّةُ بَيْنَ آيَادِي الرِّجَالِ التِي كَانَتْ تَتَسَابَقُ لِتَحْتَضِنَ اليَدَ الطَّاهِرَةَ المُبَارَكَةَ، وَتُعْلِنَ فِي عَزْمٍ أَكِيْدٍ تَقَبُّلَهَا لِلْبَيْعَةِ، وَتَمَسُّكَهَا بِبنُودِهَا التِي أَعْلَنَهَا النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

إِنَّهُ الصَّحَابِيُّ صَغِيْرُ السِّنِّ، الذِي اسْتَطَاعَ بِعِلْمِهِ وَزُهْدِهِ وَتَقْوَاهُ أَنْ يُنَاطِحَ الجِبَالَ الرَّاسِيَاتِ! أَلَمْ يُصْبِحْ هُوَ نَفْسُهُ جَبَلاً شَامِخًا مَتِيْنَ البُنْيَانِ، غَزِيْرَ المَعْرِفَةِ، حَتَّى زَكّاهُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعَلَهُ مِنْ الفُقَهَاءِ الخَمْسَةِ بِالمَدِيْنَةِ؟

أَلا يَكْفِيْهِ فَخْرًا أَنَّ النّبِيَّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَ قَائِلاً:
“أَعْلَمُ أُمَّتِي بِالحَلالِ والحَرَامِ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ”؟ وَلِمَ لا وَهُو الّذِي تَرَبَّى عَلَى يَدِ المُعَلِّمِ الأَوَّلِ، مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ
اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَاسْتَقَى العِلْمَ مِنْ يَنْبُوعِهِ الأَصِيْلِ؟!

لَقِيَهُ الرَّسُولُ ذَاتَ صَبَاحٍ فَسَأَلَهُ:

ـ كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا مُعَاذُ؟

قَالَ: أَصْبَحتُ مُؤمِنًا حَقًّا يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ النّبِىُّ: إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيْقَةً، فَمَا حَقِيْقَةُ إِيْمَانِكَ؟

قَالَ مُعَاذُ: مَا أَصْبَحْتُ قَطّ إِلا ظَنَنْتُ أَنِّي لا أُمْسِي، وَلا أَمْسَيتُ مَسَاءً إِلا ظَنَنْتُ أَنِّي لا أُصْبِحُ، وَلا خَطَوتُ خُطْوَةً إِلا ظَنَنْتُ أَنِّي لا أُتبِعُهَا غَيْرَهَا، وَكَأَنِّي أَنظُرُ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا، وَكَأَنِّي أَرَى أَهْلَ الجَنَّةِ فِي الجَنَّةِ يَنْعَمُونَ، وَأَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ.

قَالَ لَهُ الرّسُولُ: عَرَفْتَ فَالْزَمْ.

وَحَسْبُهُ فَضْلاً عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ أَحَدَ النَّفَرِ السِّتَّةِ الذِيْنَ جَمَعُوا القُرآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

لَمَّا انْتَشَرَ الإِسْلامُ فِي رُبُوْعِ الجَزِيْرَةِ العَرَبِيَّةِ، وَبَدَأَتْ تَهِلُّ الوفُودُ إِلَى النّبِيِّ فِي المَدِيْنَةِ، كَانَ ضِمْنَ هَذِهِ الوفُودِ “رُسُلُ مُلُوكِ اليَمَنِ”، الذِيْنَ جَاءوا لِيُعْلِنُوا إِسْلامَهُم، وَإِسْلامَ مَنْ وَرَاءَهُم، ثُمَّ سَأَلُوا النَّبِيَّ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُم مَنْ يُعَلِّمُهُم دِيْنَ اللهِ. وَكَانَ التّكْلِيْفُ النّبَوِيُّ إِلَى هَذَا الصّحَابِيِّ الفَقِيْهِ مُعَاذِِِ بنِ جَبَلٍ، أَنْ يَتَأَمَّرَ عَلَيْهِم، وَيُعَلِّمَهُم الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ.

سَأَلَهُ الرّسُولُ حِينَ وَجَّهَهُ إِلَى اليَمَنِ:

ـ بِمَاذا تَقْضِي يَا مُعَاذٌ؟ فَأَجَابَهُ قَائِلاً:

ـ بِكَتَابِ اللهِ.

فَقَالَ الرّسُولُ:

ـ فَإِن لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللهِ؟

فَأجَابَ:

ـ أَقْضِي بُِسنَّةِ رَسُولِهِ.

قَالَ لَهُ الرّسُولُ:

ـ فَإِنْ لَمْ تَجِِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ؟

قاَلَ مُعَاذٌ:

ـ أَجْتَهِدُ رَأيِي وَلا آلُو.

فَتَهَلَّلَ وَجْهُ الرّسُولِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: الحَمْدُ للهِ الّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ.

ثُمَّ قَالَ لَهُ بَعْدَ أَنْ أَوْصَاهُ:

ـ عَسَى أَلا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَعَلَّكَ تَمُرُّ بِمَسْجِدِي وَقَبْرِي!!

فَلَمْ يَتَمَالَكِ التِّلمِيْذُ النّجِيْبُ نَفْسَهُ، فَأَجْهَشَ بِالبُكَاءِ جَزَعًا لِفُرَاقِ سَيِّدِهِ وَأُسْتَاذِهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

وَهَذَا مَا حَدَثَ بِالفِعْلِ، فَإِنَّ الصّحابِيَّ الجَلِيْلَ لَمْ تَكْتَحِلْ عَيْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى بِرُؤيَةِ النّبِيِّ حِيْنَ عَادَ لِلمَدِيْنَةِ، فَعَادَ أَدْرَاجَهُ إِلَى اليَمَنِ، وَظَلَّ يَعْمَلُ عَلَى تَعْلِيمِ النّاسِ كَمَا أَمْرَهُ أُستَاذُهُ وَمُعَلِّمُهُ، فَكَانَ نِعْمَ العَالِمُ الفَقِيْهُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَعَنْ سَائِرِ الصّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ.

 

اقرأ سيرة هؤلاء الصحابة

عروة بن الزبير

عَمْرو بن العَاصِ

خَالِد بن الوَلِيْدِ

جَابِر بن عَبْدِ اللهِ الأَنصَارِيُّ

معَاذ بن جَبَلٍ

سَعْد بن معَاذٍ

مصْعَب بن عمَيْرٍٍ

قصة بنى الله إبراهيم

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال