صلاح الدين الأيوبي
أَجْمَعَتْ كُتُبُ التَّارِيْخِ فِي الشَّرْقِ وَالغَرْبِ،
أَنَّ هَذَا القَائِدَ العَظِيْمَ- بِالفِعْلِ- أنْمُوذَجٌ عَبْقَرِيٌّ ِفي النُّبْلِ
وَالمرُوءَةِ وَالشَّجَاعَةِ. وَقَدْ شَهِدَ بِأَخْلاقِهِ الفَاضِلَةِ أَعْدَاؤُهُ
مِنْ الصّلِيبِييّنَ، فَضْلاً عَنْ أَصْدِقَائِهِ المُقرَّبِيْنَ، وَكُلِّ مِنْ تَنَاوَلَ
سِيْرَتَهُ العَطِرَةِ مِنَ المُتْرجِمِيْنَ وَالمُؤرِّخِيْنَ.
إِنَّهَا شَخْصِيَّةٌ عِمْلاقَةٌ، لا نَعْرِفُ مِنْ أَيِّ
مدْخَلٍ نَدْخُلُ إِلَيْهَا، وَلا غَرْوَ؛ فَهِي إِحْدَى القَامَاتِ السَّامِقَةِ
التِي قَامَ بِصنْعِهَا الإِسْلامُ، كَمَا صَنَعَ لَنَا شَخْصِيَّاتٍ أخْرَى كَثِيْرَةٍ
وَعَظِيْمَةٍ، لا نَزَالُ نَذْكُرُهَا بِكُلِّ اعْتِزَازٍ وَفَخْرٍ، فَهِي تمِدُّنَا
بِالعَزِيْمَةِ الصُّلْبَةِ، وَالأَمَلِ المُشْرِقِ، فَأَرْضُ الإِسْلامِ خِصْبَةٌ
وَلاَّدَةٌ، وَلَسَوفَ تقَدِّمُ لَنَا نَمَاذِجَ رَائِعَةً بِإِذْنَ اللهِ، خَاصَّةً
فِي ظِلِّ الأَحْدَاثِ الدَّامِيَةِ التِي تَعِيْشُهَا دِيَارُ الإِسْلامِ الآنَ،
وَالتِي تشْبِهُ إِلَى حَدٍّ كَبِيْرٍ تِلْكَ الأَوْضَاعَ المُتَرَدِّيَةَ التِي
كَانَتْ سَائِدَةً قَبْلَ مَجِيءِ البَطَلِ المُلْهِمِِ صَلاحِ الدِّيْنِ الأَيُّوبِيِّ.
صلاح الدين الأيوبي
وَلا تَعْجَبْ صَدِيْقِي.. فَلَعَلَّهُ يَكُوْنُ أَنْتَ!!
نَعَمْ أَنْتَ ذَلِكَ الفَارِسُ النَّبِيْلُ الذِي سَيَأتِي لِيخَلِّصَ القُدْسَ
الشَّرِيْفَ مِنْ أَيْدِي هَؤلاءِ اليَهُودِ المَلاعِيْنِ، وَيَنْصُرَ اللهُ تَعَالَى
عَلَى يَدَيْكَ الإِسْلامَ وَالمُسْلِمِيْنَ. فَقَطْ عَلَيْكَ أَنْ تَتَمَسَّكَ بِدِيْنِكَ
جَيِّدًا، وَأَنْ تقَلِّبَ صَفَحَاتِ المَاضِي العَرِيْقِ؛ لِتَتَعَرَّفَ عَلَى هَؤلاءِ
الأَبْطَالِ العِظَامِ، فَتَجْعَلَهُم نِبْرَاسًا لِحَيَاتِكَ، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى
اللهِ بِبَعِيْدٍ.
* * *
هَلْ تَعْرِفُ- صَدِيْقِي- أَنَّ المَلِكَ النَّاصِرَ
“صَلاحَ الدِّيْنِ” كَانَ مِنَ المُمْكِنِ أَلا يَظْهَرَ، وَلا يَكُونَ
لَهُ ذِكْرٌ أَصْلاً؟! ذَلِكَ أَنَّ وَالِدَهُ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ، كَادَ يَقْضِي
عَلَيْهِ وَيَذْبَحُهُ بِالسَّيْفِ، وَهوَ لا يَزَالُ طِفْلاً رَضِيْعًا، مَعَ أَوَّلِ
يَوْمٍ ولدَ فِيْهِ؛ فَقَدْ تَشَاءَمَ مِنْ مَوْلِدِهِ، وَكَرِهَ النَّظَرَ إِلَيْهِ؛
لأَنَّ اليَوْمَ الذِي ولِدَ فِيْهِ صَلاحُ الدِّيْنِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الأَرْبعَاءِ
مِنْ سَنَةِ 532 هـ، بِقَلْعَةِ تِكْرِيْتَ، كَانَتْ فِيْهِ النِّهَايَةُ المَحْتُومَةُ
لإِقَامَتِهِمْ بِهَذِهِ القَلْعَةِ؛ إِذْ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يغَادِرُوهَا مرْغَمِيْنَ،
فَاضطُرَّ كُلٌّ مِنَ الأَبِ “نَجْمِ الدِّيْنِ أَيُّوبَ”، وَالعَمِّ
” أَسَدِ الدِّيْنِ شِيْركُوه” أَنْ يَخْرُجَا وَهمَا فِي قِمَّةِ الأَسَى
وَالحُزْنِ، وَهَذَا مَا جَعَلَ نَجْمَ الدِّيْنِ أَيُّوبَ يَظُنُّ فِي وَلِيْدِهِ
هَذَا الظَّنَّ السَّيِّئَ.
صلاح الدين الأيوبي
بَيْدَ أَنَّ البَعْضَ مِنْهُم أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَمَهَّل
وَلا يْفَعَلَ، فَإِنَّهُ عَلَى أَيَّةِ حَالٍ طِفْلٌ لا ذَنْبَ لَهُ وَلا جَرِيْرَةً،
وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ، فَلَعَلَّ الخَيْرَ يَكُونُ عَلَى يَدَيْهِ.
وَاسْتَجَابَ نَجْمُ الدِّيْنِ لِنَصِيْحَتِهِمْ، وَأَعَادَ
سَيْفَهُ إِلَى غِمْدِهِ، ثمَّ أَشَارَ إِلَيْهِمْ؛ فَتَحَرَّكَتْ جمُوعُ العَائِلَةِ
الكُرْدِيَّةِ (أسْرَةُ نَجْمِ الدّينِ وَشَقِيْقِه أَسَدِ الدِّيْنِ)، وَهمْ يَحْمِلُونَ
أَثْقَالَهُم وَأَمْتِعَتَهُم، وَاتَّجَهُوا نَحْوَ “المَوْصِلِ”؛ لِيُقِيْمُوا
عِنْدَ صَدِيْقٍ قَدِيْمٍ يُدْعَى “عِمَادَ الدِّيْنِ زِنْكِِي”.
صلاح الدين الأيوبي
وَلَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا جَيِّدًا أَنَّ عِمَادَ الدّيْن
زِنْكِي هَذَا هوَ أَحَدُ العَمَالِقَةِ الثّلاثَةِ الذِيْنَ سَاعَدُوا فِي دَفْعِ
عَجَلاتِ النَّصْرِِ، وَأَوَّلُ مَنْ عَمِلَ عَلَى وَحْدَةِ الصَّفِّ العَرَبِيِّ؛
لِيَتَمَكَّنَ مِنْ موَاجَهَةِ الإِفْرِنْجِ، فَقَدْ كَانَ عَالَمُنَا الإِسْلامِيُّ
فِي بِلادِ المَشْرِقِ يَمُوجُ بِالفِتَنِ الدَّاخِلِيَّةِ، وَيحَارِبُونَ بَعْضَهُم
بَعْضًا، وَاسْتَحْوَذَ كلُّ وَالٍ مِنَ الولاةِ عَلَى مَا تَحْتَ وِلايَتِهِ، وَجَعَلَهَا
دوَيْلَتَهُ، يُدَافِعُ عَنْهَا، وَيَتَحَيَّنُ الفُرَصَ لِيَسْطُوَ عَلَى مَنْ حَوْلِهِ..
يَسْتَأسِدُ عَلَيْهِمْ، وَيَنْتَزِعُ الأَجْزَاءَ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَيَضُمُّهَا
إِلَى أَرْضِهِ؛ لِيَتَّسِعَ نُفُوذُهُ، وَيَكْثُرَ مَالُهُ، وَيَتَوَطَّدَ مُلْكُهُ،
وَلا يَعْنِيْهِ أَنْ تَتَمَزَّقَ دَوْلَةُ الإِسْلامِ وَتَضْعُفَ.
صلاح الدين الأيوبي
هَكَذَا كَانَ الحُكَّامُ المُسْلِمُونَ يَتَبَادَلُونَ
فِيْمَا بَيْنَهُم نَظَرَاتِ الجَشَعِ وَالطَّمَعِ، وَالسَّعْي وَرَاءَ زخْرُفِ الحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَسُلْطَانِهَا الزَّائِفِ.
وَالذِي دَفَعَهُم إِلَى ذَلِكَ هوَ حَالَةُ الضَّعْفِ
وَالهَوَانِ التِي وَصَلَتْ إِلَيْهَا الخِلافَةُ العَبَّاسِيَّةُ، مِمَّا أَفْقَدَهَا
هَيْبَتَهَا، وَجَعَلَهَا مَطْمَعًا لِلأعْدَاءِ المُتَرَبِّصِيْنَ، وَالذِيْنَ جَاءوا
مِنْ بِلادِ الإِفْرِنْجِ يَحْمِلُونَ شِعَارَهُم المُقَدَّسَ “الصَّلِيْبَ”،
وَيَحْدُوهُم الأَمَلُ فِي غَزْوِ المُسْلِمِيْنَ، وَالاسْتِيْلاءِ عَلَى خَيْرَاتِهِمْ،
وَقَتْلِ أَبْنَاءِهِمْ، وَالقَضَاءِ عَلَى دِيْنِهِمْ، وَانْتِزَاعِ القُدْسِ الشَّرِيْفِ
مِنْ بِيْنِ أَيْدِيْهِمْ.
وَتَمَّ لَهُمْ مَا أَرَادُوا، وَصَارَتِ القُدْسُ فِِي
حَوْزَتِهِمْ، وَابْتَلَعُوا الكَثِيْرَ مِنَ البِلادِ المُجَاوِرَةِ، وَذَبَحُوا
مِنَ المُسْلِمِيْنَ- دَاخِلَ القُدْسِ فَقَطْ- أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِيْنَ أَلْفًا،
حَتَّى أَنَّ شَلاَّلاتِ الدَّمِ كَانَتْ تَجْرِي أَنْهَارًا فِي الشّوارِعِ وَالأَزِقَّةِ،
وَالأَشْلاءُ تَتَهَادَى هنَا وَهنَاكَ.
صلاح الدين الأيوبي
وَبِكُلِّ أَسَفٍ، فَإِنَّ حُكَّامَ المُسْلِمِيْنَ قَدْ
خََافُوا عَلَى ملْكِهِمْ، فَكََانَ الوَاحِدُ مِنْهُم يَذْهَبُ إِلَى هَؤُلاءِ
الغُزَاةِ فَيَتَوَدَّدُ إِلَيْهِمْ، وَيَطْلُبُ مِنْهُم العَوْنَ وَالسَّدَادَ وَالحِمَايَةَ،
وَيَسْتَعِيْنُونَ بِهِمْ عَلَى ضَرْبِ إِخْوَانِهِم نَظِيْرَ أَمْوَالٍ طَائِلَةٍ
يَقُومُونَ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِمْ.
* * *
نَعَمْ، هَذِهِ صُوْرَةٌ سَرِيْعَةٌ لِلعَالَمِ الإِسْلامِيِّ
فِي ذَلِكَ الوَقْتِ، فَقَيَّدَ اللهُ تَعَالَى لِلإِسْلامِ بَطَلاً فَذًّا، وَمُجَاهِدًا
عَظِيْمًا، هوَ “عِمَادُ الدِّيْنِ زِنْكِي”؛ لِيَعْمَلَ عَلَى رَأْبِ
الصَّدْعِ، وَتَوْحِيْدِ الصَّفِّ. كَانَ ذَلِكَ هوَ هَدَفَهُ الأَوَّلَ؛ لأَنَّ
النَّصْرَ عَلَى الأَعْدَاءِ لا يمْكِنُ أَبَدًا أَنْ يَأتِيَ فِي ظِلِّ التّفَرُّقِ
وَالتَّمَزُّقِ وَالتَّشَرْذُمِ الذِي أَصَابَ المُسْلِمِيْنَ.
صلاح الدين الأيوبي
وَقَدِ انْتَقَلَتِ الرَّايَةُ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى البَطَلِ
الثَّانِي “نورِ الدِّيْنِ مَحْمُودٍ”، وَالذِي كَانَ لَهُ أَبْلَغُ
الأَثَرِ فِي تَوْحِيْدِ مُعْظَمِ البِلادِ، وَالعَمَلِ عَلَى مقَاتَلَةِ الأَعْدَاءِ؛
فَسَارَ عَلَى دَرْبِ أَبِيْهِ “عِمَادِ الدِّيْنِ”.
* * *
كَانَ نَجْمُ الدِّيْنِ أَيُّوبُ، وَأَخُوهُ أَسَدُ الدِّيْنِ
شِيْركُوه، قَدِ اطْمَأَنُّوا إِلَى وجُودِهِِم عِنْدَ عِمَادِ الدِّيْنِ زِنْكِي،
وَاطْمَأََنَّ هوَ أَيْضًا إِلَيْهِمْ، وَتَأَكَّدَ لَهُ أَنَّهُم لا يَزَالُونَ
أَهْلاً للثِّقَةِ؛ فَبَالَغَ فِي إِكْرَامِهِمْ، وَعَمِلَ عَلَى تَقْرِيْبِهِمْ،
وَجَعَلَهُم مَوْضِعَ ثِقَتِهِ وَاعْتِمَادِهِ.
وَهَكَذَا تَرَبَّى “صَلاحُ الدِّيْنِ”، وَعَاشَ
هوَ وَعَائِلَتُهُ الكَرِيْمَةُ فِي كَنَفِ “عِمَادِ الدِّيْنِ زِنْكِي”؛
فَتَرَبَّى عَلَى الفُرُوسِيَّةِ، وَأَحَبَّ الجِهَادَ وَالأَمَلَ فِي مُطَارَدَةِ
الأَعْدَاءِ. وَقَدْ شَاهَدَ بِأمِّ عَيْنَيْهِ كَيْفَ يَتِمُّ التَّخْطِيْطُ للمَعَارِكِ،
فَضْلاً عَنْ درُوسِ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ التِي كَانَ يَحْضرُهَا فِي المَسْجِدِ،
وَتَأسِيْسِهِ عَلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصّحِيْحَةِ المُطَهَّرَةِ عَلَى أَيْدِي
كِبَارِ العُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ، حَتَّى صَارَ عَالِمًا بِأصُولِ الشَّرِيْعَةِ،
فَقِيْهًا فِي أمُورِ الدِّيْنِ.
صلاح الدين الأيوبي
وَلَمَّا تَوَلَّى “نورُ الدِّيْنِ مَحْمُودٌ”
الأَمْرَ مِنْ بَعْدِ وَالِدِهِ، اسْتَنَدَ إِلَى “الأَيُّوبِيِّينَ”، وَأَسْنَدَ
إِلَيْهِمْ الكَثِيْرَ مِنَ الأَعْمَالِ الجَلِيْلَةِ، فَكَانُوا يَبْذُلُونَ قَصَارَى
جَهْدِهِم مِنْ أَجْلِ خِدْمَةِ الإِسْلامِ، وَلِيَظَلُّوا دَائِمًا مَوْضِعَ الثِّقَةِ
وَالتَّقْدِيْرِ. وَهَذَا مَا دَفَعَ بِالسُّلْطَانِ “نورِ الدِّيْنِ مَحْمُودٍ”
أَنْ يقَرِّبَ “صَلاحَ الدِّيْنِ”، وَيوصِي بِهِ خَيْرًا، وَيَتَفَقَّدَ
أَحْوَالَهُ، وَيَطْمَئِنَّ عَلَيْهِ، حَتَّى عَيَّنَهُ كَبِيْرًا للشُّرْطَةِ- بِرَغْمِ
صِغَرِ سِنِّهِ- لِمَا وَجَدَ فِيْهِ مِنْ نَجَابَةٍ وَشَجَاعَةٍ وَذَكَاءٍ مُنْقَطِعِ
النَّظِيْرِ.
وَقَدِ اسْتَطَاعَ “صَلاحُ الدّيْنِ” أَنْ يَضْرِبَ
عَلَى أَيْدِي اللصُوصِ وَقطَّاعِ الطَّرِيْقِ بِيَدٍ مِنْ حَدِيْدٍ، حَتَّى سَادَ
الأَمْنُ وَالأَمَانُ فِي ربُوعِ الشَّامِ. وَقَدْ أَحَسَّ “نورُ الدِّيْنِ
مَحْمُودٌ ” بِنَظْرَتِهِ الثَّاقِبَةِ أَنَّ هَذَا الفَتَى “صَلاحَ الدِّيْنِ”
سَيَكُونُ لَهُ شَأنٌ عَظِيْمٌ، وَسَيَأتِي الخَيْرُ عَلَى يَدَيْهِ إِنْ شَاءَ
اللهُ.
صلاح الدين الأيوبي
* * *
لَمْ تَكُنْ نَظْرَةُ “نورِ الدِّيْنِ مَحْمُودٍ”
وَحْدَهَا التِي تدْرِكُ مَوْهِبَةَ صَلاحِ الدّيْنِ؛ فَعَمُّهُ “أَسَدُ الدِّيْنِ
شِيْركُوه” كَانَ مُتَأَكِّدًا مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا مَا جَعَلَهُ يصرُّ عَلَى
أَخْذِهِ مَعَهُ ضِمْنَ الجَيْشِ الذَّاهِبِ إِلَى مِصْرَ، وَبِرَغْمِ رَفْضِ الشَّابِّ
صَلاحِ الدِّيْنِ الذَّهَابَ، وَعَدَمِ تَحَمُّسِهِ، وَتَفْضِيْلِهِ البَقَاءَ بِالشَّامِ،
إِلا أَنَّ العَمَّ “شِيْركُوه” تَمَسَّكَ بِهِ، وَأَصَرَّ عَلَى مصَاحَبَتِهِ.
وَبَعْدَ مُحَاولاتٍ مُضْنِيَةٍ لإِقْنَاعِهِ- وَتِلْكَ مَشِيْئَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ-
خَرَجَ صَلاحُ الدّيْنِ زَاهِدًا فِي الذّهَابِ، إِلا أَنَّهُ أَصْبَحَ بَعْدَ سَنَوَاتٍ
قَلِيْلَةٍ سلْطَانًا لِمِصْرَ، ثمَّ مَلِكًا لِمِصْرَ وَالشَّامِ، لِيَتَحَقَّقَ
الحُلْمُ الأَعْظَمُ بِخُرُوجِ الصّلِيْبِيِّنَ مِنَ القُدْسِ وَمِنْ سَائِرِ البِلادِ
الشَّامِيَّةِ، فِيْمَا عَدَا القَلِيْلِ مِنْهَا.
صلاح الدين الأيوبي
* * *
نَعَمْ، ذَهَبَ الشَّابُّ التَّقِيُّ الوَرِعُ “صَلاحُ
الدّينِ يُوسُفُ بنُ أَيُّوبَ بنِ شَاذِي الكُرْدِي” بِصُحْبَةِ عَمِّهِ المَحْبُوبِ
“أَسَدِ الدِّيْنِ شِيْركُوه” إِلَى مِصْرَ، فَاتَّجَهَ شِيْركُوه إِلَى
غَزَّةَ، فَبِلْبِيْسَ، فَالقَاهِرَةِ، بَيْنَمَا اتَّجَهَ صَلاحُ الدِّيْنِ بِالكَتِيْبَةِ
التِي يَقُودُهَا نَحْوَ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَلجَ صَلاحُ الدِّيْنِ الإِسْكَنْدَرِيَّةَ
مَشْدُودَ القَامَةِ، مَرْفُوعَ الهَامَةِ، وَسَطَ تَهْلِيْلِ وَتَرْحِيْبِ أَهْلِهَا
الذِيْنَ نَقَمُوا عَلَى الفَاطِمِيِّيْنَ فِي الفُسْطَاطِ وَتَعَاونِهِمْ مَعَ
الصّلِيْبِيِّنَ، فَلَمْ تَكُنْ مِصْرُ بِالفِتَنِ وَالقَلاقِلِ المَوْجُودَةِ بِهَا،
بِأَحْسَنِ حَالٍ مِنَ الشّامِ.
وَتَفَتَّقَتْ عَبْقَرِيّةُ القَائِدِ المُلْهَمِ صَلاحِ
الدّينِ، وَتَجَلَّتْ شَجَاعَتُهُ، وَأَظْهَرَ مِنَ البَرَاعَةِ وَالذّكَاءِ مَا أَعَادَ
الأَمَانَ إِلَى الشّعْبِ المِصْرِيِّ، بِانْتِصَارِهِ السّاحِقِ عَلَى الصّلِيْبِيّينَ
وَمطَارَدَتِهِمْ، ثمّ لَمْ يَلْبَثْ إِلا قَلِيْلاً حَتَّى اختِيْرَ وَزِيْرًا
لِلْخَلِيْفَةِ الفَاطِمِي “العَاضِدِ بِاللهِ”، فَقَضَى عَلَى كُلِّ
الفِتَنِ وَالقَلاقِلِ الدّاخِلِيْةِ، وَعَمِلَ جَاهِدًا عَلَى وَحْدَةِ المُسْلِمِيْنَ،
وَلَفَظَ المَذْهَبَ الشِّيْعِيِّ الذِي كَانَ قَدْ فَرَضَهُ الفَاطِمِيُّونَ عَلَى
مِصْرَ، وَأَقَرَّ بَدَلاً مِنْهُ “المَذْهَبَ السُّنِّيَّ”، فَرَحَّبَ
الشَّعْبُ المِصْرِيُّ بِذَلِكَ أَشَدَّ تَرْحِيْبٍ.
صلاح الدين الأيوبي
وَلَمَّا مَاتَ الخَلِيْفَةُ العَاضِدُ- آخِرُ الخُلَفَاءِ
الفَاطِمِيِّيْنَ- صَارَ الأَمْرُ كُلُّهُ لِصَلاحِ الدِّيْنِ، وَأَصْبَحَ هُوَ سُلْطَانَ
مِصْرَ. لَكِنَّهُ اسْتَمَرَّ عَلَى وَلائِهِ لِسَيِّدِهِ وَوَلِي نِعْمَتِهِ
“نورِ الدِّيْنِ مَحْمُودٍ”، وَظَلَّ يُظْهِرُ لَهُ حسْنَ الطَّاعَةِ
وَالوَلاءِ، فَيَمْتَثِلُ لأَوَامِرِهِ، وَيَدْعُو لَهُ وَلِلْخَلِيْفَةِ العَبَّاسِيِّ
عَلَى المَنَابِرِ، وَيَصُكُّ النُّقُودَ بِاسْمِهِ، وَيرْسِلُ إِلَيْهِِ بِالهَدَايَا
حَتَّى مَاتَ نورُ الدِّيْنِ وَهو عَنْهُ رَاضٍ.
وَبِمَوتِ نورِ الدِّيْنِ مَحْمُودٍ، عَادَتِ الفِتَنُ
تَطُلُّ بِرَأسِهَا مَرَّةً أخْرَى، لِتَعْصِفَ بِوَحْدَةِ المُسْلِمِيْنَ.
هنَالِكَ خَرَجَ صَلاحُ الدّيْنِ مِنْ مِصْرَ عَلَى رَأْسِ
جَيْشٍ عَظِيْمٍ وَاتّجَهَ إِلَى بِلادِ الشّامِ، فَكَسَرَ أُنُوفَ الخَوَنَةِ وَالمَوتُورِيْنَ،
وَوَحَّدَ البِلادَ، وَأَصْبَحَ الآنَ عَلَى أَهُبَّةِ الاسْتِعْدَادِ لِتَحْقِيْقِ
حلْمِهِ القَدِيْمِ وَحُلْمُ كلِّ العَرَبِ وَالمُسْلِمِيْنَ، وَهوَ محَارَبَةُ
الصّلِيبِيِّنَ وَتَحْرِيرُ القُدْسِ.
صلاح الدين الأيوبي
* * *
مَا أَنِ اطْمَأَنَّ صَلاحُ الدّينِ لِلأَحْوَالِ، وَصَارَتِ
البِلادُ جَمِيْعُهَا تَعْمَلُ تَحْتَ إِمْرَتِهِ، حَتَّى خَرَجَ بِجيُوشِهِ المُدَرَّبَةِ
مِنْ مِصْرَ إِلَى الشّامِ وَفِلَسْطِيْنَ، بَعْدَ أَنْ أَقَامَ الحُصُونَ، وَأَمَّنَ
الثُّغُورَ.. انْطَلَقَ القَائِِدُ البَطَلُ لِيُحَارِبَ الصّلِيْبِيّينَ وَيلْحَقَ
بِهِمْ هَزَائِمَ مُتَلاحِقَةً، حَتّى طَرَدَهُم إِلَى شَوَاطِىءِ البَحْرِ، لِيَفِرُّوا
كَالفِِئْرَانِ المَذْعُورَةِ إِلَى بِلادِهِم التِي جَاءوا مِنْهَا بَعْدَ قَرْنٍ
وَنِصْفِ مِنْ غَزْوِهِم وَاحْتِلالِهِمْ لأَرَاضِي المُسْلِمِيْنَ.
إِلَى القُدْسِ الشّرِيْفِ:
وَأَمَّا عَنْ تَحْرِيْرِهِ لِلقُدْسِ الشّرِيْفِ، فَتَعَالُوا
مَعًا لِنَسْتَمِعَ إِلَى أَحَدِ شُهُودِ العيَانِ، الذِيْنَ حَضَرُوا تِلْكَ المَعْرَكَةَ
المُبَارَكَةَ، وَالذِي كَانَتْ لَهُ مَكَانَةٌ سَامِيَةٌ فِي قَلْبِ المَلِكِ النّاصِرِ
“صَلاحِ الدِّيْنِ الأَيُّوبِيِّ “. إِنَّهُ القَاضِِي الفَقِيْهُ
“بَهَاءُ الدِّيْنِ بنُ شَدَّادٍ” صَاحِبُ كِتَابِ “السِّيَر الصَّلاحِيَّة”.
يَقُولُ ابنُ شَدَّادٍ:
“لَمَّا تَسَلَّمَ صَلاحُ الدِّيْنِ عَسْقَلانَ وَالأَمَاكِنَ
المُحِيْطَةَ بِالقُدْسِ، شَمَّرَ عَنْ سَاقِ الجِدِّ وَالاجْتِهَادِ فِي قَصْدِ
القُدْسِ المُبَارَكِ، وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ العَسَاكِرُ التِي كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً
فِي السَّاحِلِ، فَسَارَ نَحْوَهُ مُعْتَمِدًا عَلَى اللهِ تَعَالَى، مفَوِّضًا أَمْرَهُ
إِلَيْهِ، منْتَهِزًا الفُرْصَةَ فِي فَتْحِ بَابِ الخَيْرِ الذِي حَثَّ عَلَى انْتِهَازِهِ
بِقَوْلِهِ: “مَنْ فتِحَ لَهُ بَابُ خَيْرٍ فَلْيَنْتَهِزْهُ، فَإِنَّهُ لا يَعْلَمُ
مَتَى يغْلَقُ دوْنَهُ”. وَكَانَ نزُولُهُ عَلَيْهِ فِي يَوْمِ الأَحَدِ،
الخَامِسَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ، سَنَةَ 583 هـ. وَكَانَ نُزُولُهُ بِالجَانِبِ الغَرْبِيِّ،
وَكَانَ مَعَهُ مَنْ كَانَ مَشْحُونًا بِالمُقَاتَلَةِ مِنَ الخَيَّالَةِ وَالرَّجَّالَةِ،
ثُمّ انْتَقَلَ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا إِلَى الجَانِبِ الشّمَالِيِّ فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ،
العِشْرِيْنَ مِنْ رَجَبٍ، وَنَصَبَ المَنَاجِيْقَ وَضَايَقَ البَلَدَ بِالزَّحْفِ
وَالقِتَالِ، حَتَّى أَخَذَ النّقبَ فِي السُّورِ، مِمَّا يَلِي وَادِي جَهَنَّمَ.
صلاح الدين الأيوبي
رَأى أَعْدَاءُ اللهِ الصّلِيْبِيُّونَ مَا نَزَلَ بِهِمْ
مِنَ الأَمْرِ الذِي لا حَائِلَ لَهُ عَنْهُمْ، وَظَهَرَتْ لَهُم عَلامَاتُ فَتْحِ
المَدِيْنَةِ وَظُهُورِ المُسْلِمِيْنَ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ قَدِ اشْتَدَّ رَوْعُهُم
لِمَا جَرَى عَلَى أَبْطَالِهِمْ وَحُمَاتِهِمْ مِنَ القَتْلِ وَالأَسْرِ، وَعَلَى
حُصُونِهِم مِنَ التّخْرِيْبِ وَالهَدْمِ، وَتَحَقَّقُوا أَنَّهُم صَائِرونَ إِلَى
مَا صَارَ أُولَئِكَ إِلَيْهِ، فَاسْتَكَانُوا وَأَخْلَدُوا إِلَى طَلَبِ الأَمَانِ.
وَاسْتَقَرَّتِ الأُمُورُ بِالمُرَاسَلَةِ مِنَ الطّائِفَتَيْنِ، وَكَانَ تَسَلُّمُهُ
فِي يَومِ الجُمُعَةِ، السّابِعِ وَالعِشْرِيْنَ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَتَهُ كَانَتْ
لَيْلَةَ المِعْرَاجِ المَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي القُرآنِ الكَرِيْمِ.
صلاح الدين الأيوبي
يَقُوْلُ بَهَاءُ الدّينِ بنُ شَدَّادٍ أَيْضًا:
“نُكِّسَ الصَّلِيْبُ الذِي كَانَ عَلَى قُبَّةِ
الصَّخْرَةِ، وَكَانَ شَكْلاً عَظِيْمًا، وَنَصَرَ اللهُ الإِسْلامَ عَلَى يَدِهِ
نَصْرًا عَزِيْزًا. وَكَانَ الإِفْرِنْجُ قَدِ اسْتَوْلَوا عَلَى القُدْسِ سَنَةَ
492 هـ، وَلَمْ يَزَلْ بِأَيْدِيْهِم حَتَّى اسْتَنْقَذَهُ مِنْهُمْ صَلاحُ الدِّيْنِ.
وَكَانَتْ قَاعِدَةُ الصُّلْحِ أَنَّهُمْ قَطَعَوا عَلَى أَنْفُسِهِم عَنْ كُلِّ رَجُلٍ
عِشْرِيْنَ دِيْنَارًا، وَعَنْ كُلِّ امْرَأةٍ خَمْسَةَ دَنَانِيْرَ صُورِيَّةٍ، وَعَنْ
كُلِّ صَغِيْرٍ- ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى- دِيْنَارًا وَاحِدًا. فَمَنْ أَحْضَرَ قَطِيْعَتَهُ
نَجَا بِنَفْسِهِ، وَإِلا أُخِذَ أَسِيْرًا.. وَأُفْرِجَ عَمَّنْ كَانَ بِالقُدْسِ
مِنْ أَسْرَى المُسْلِمِيْنَ، وَكَانُوا خَلْقًا عَظِيْمًا”
100 قصة مصورة و PDF
اكبر مكتبة قصص بصيغة PDF
نقدم لكم اليوم 100 قصة مصورة و PDF
قصص قبل النوم
مناهج تعليمية
انقر على الرابط وقم بتحميل الملفات