خالد بن الوليد سَيْفُ اللهِ المَسْلُولُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)

خالد بن الوليد

خالد بن الوليد

خالد بن الوليد.. اخْتَلَفَ الجَيْشُ حَوْلَ مَنِ الذِي يَحْمِلُ اللّواءَ وَيَقُودُ المَعْرَكَةَ؛ فَعَدَدُهُم قَلِيْلٌ..
ثَلاثَةُ آلافٍ فِي مُوَاجَهَةِ جَيْشٍ عَرَمْرَمٍ، قِوَامُهُ مِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ يُشَارِكُهُم مِائَةُ ألْفٍ آخَرُونَ من لخم وجذام. 
لَوْ أَحَسُّوا بِأَنَّ المُسْلِمُونَ يَفْتَقِدُونَ إِلَى قَائِدٍ مُحَنَّكٍ حَكِيْمٍ يَقُودُ المَعْرَكَةَ، ربَّمَا أَخَذَهُم الطَّمَعُ فِي مهَاجَمَتِهِم وَالقَضَاءِ عَلَيْهِمْ.

سيف الله المسلول

كَانَ النّبِيُّ يَجْلِسُ بِالمَدِيْنَةِ، وَقَدْ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ مَا يَحْدُثُ فِي سَاحَةِ القِتَالِ، فَكَأَنَّمَا يَرَاهَا رَأي عَيْنٍ، فَكَانَ يَسْرِدُ عَلَيْهِم وَقَائِعَهَا حَيَّةً سَاخِنَةً.
سَقَطَ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ – آخِر الثَّلاثَةِ المكْلَّفِيْنَ بِحَمْلِ الرَّايَةِ – لِيَتَلَقَّاهَا خَالِدُ بن الوَلِيْدِ فَجْأَةً دوْنَ سَابِقِ اسْتِعْدَادِ، فَتَحَوَّلَ مِنْ صفوفِ الجنُودِ إِلَى قِيَادَةِ الجَيْشِ.
إِنَّهَا أَوَّلُ مَعْرَكَةٍ يشَارِكُ فِيْهَا مِنْ بَعْدِ أَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ.
يَا اللهُ! لَقَدْ كَانَ يَقِفُ فِي جَبْهَةِ الشِّرْكِ مُنْذُ وَقْتٍ قَلِيْلٍ، حَامِلاً سَيْفَهُ فِي وُجُوهِ المُسْلِمِيْنَ.
نَعَمْ.. كَانَ فَارِسًا مَاهِرًا، يَمْلِكُ الذَّكَاءَ وَالفِطْنَةَ قَبْلَ الإِسْلامِ، بَيْدَ أَنَّ عَظَمَتَهُ وَعَبْقَرِيَّتَهُ الحَقِيْقِيَّةَ لَمْ تَظْهَرَ إِلا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَحَقَّقَتْ فِيْهِ تِلْكَ النّبُؤةُ:
ـ حَمَلَ الرَّايَةَ الآنَ سَيْفٌ مِنْ سيُوفِ اللهِ.
وَقَدْ أَشْرَقَ وَجْهُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَهو يَسْتَكْمِلُ مَعَهُم وَقَائِعَ مؤتَةَ.
                                                            *  *  *
أَلَيْسَ هَذَا هوَ الّذِي تَسَبَّبَ فِي هَزِيْمَةِ المسْلِمِيْنَ بَعْدَ أَنْ غَمَرَتْهُم فَرْحَةُ النّصْرِ بِأُحُدٍ؟
أَلَمْ يَتَسَبَّبْ فِي مَقْتَلِ عَدَدٍ كَبِيْرٍ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ؟
ـ نَعَمْ هُوَ! 

الفراسة العسكرية

لَقَدِ اسْتَخْدَمَ فَرَاسَتَهُ العَسْكَرِيَّةَ، وَانْتَظَرَ حَتَّى وَاتَتْهُ الفرْصَةُ فَأَجْهَزَ عَلَى جَيْشِ المُسْلِمِيْنَ مِنَ المقَدِّمَةِ، فِي اللحْظَةِ التِي أَشَارَ فِيْهَا إِلَى عِكْرِمَةَ بنِ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانَ بنِ أمَيَّةَ؛ لِيطَوِّقُوا المسْلِمِيْنَ مِنَ النَّاحِيَةِ الأخْرَى.
هوَ أَحَد فرْسَانِ بَنِي مَخْزُومٍ.
وَالِدُهُ مِنْ سَادَاتِ مَكَّةَ، يَمْلِكُ الثَّرَاءَ وَالجَاهَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدِ اسْتَعْلَى بِمَالِهِ الفَاحِشِ وَأَوْلادِهِ الكُثُرِ..
رَفَضَ الدخولَ فِي دِيْنِ اللهِ، وَلَمَّا سَمِعَ آيَاتِ اللهِ تتْلَى عَلَيْهِ- وَكَانَ مِنْ أَشْعَرِ الشُّعَرَاءِ وَأَفْصَحِهِمْ- اهْتَزَّ فؤادُهُ، وَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ، وَكَادَ يَرْكَنُ إِلَى الإِسْلامِ، وَقَالَ قَوْلَتَهُ المَشْهُورَةَ، وَالتِي مَا تَزَالُ تَتَرَدَّدُ أَبَدَ الدَّهْرِ:
“وَاللهِ إِنَّ لَهُ لَحَلاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً، وَإِنَّ أَعْلاهُ لَمثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمغْدِقٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلو وَلا يعْلَى عَلَيْهِ”.
لَكِنَّ أَبَا جَهْلٍ- لَعَنَه اللهُ- وَأَعْوَانَه مِنْ أَبَالِسَةِ الإِنْسِ، التَفّوا مِنْ حَوْلِهِ، وَرَاحوا يَنْفثونَ فِي أذنَيْهِ بِكَلامٍ مَسْمومٍ، حَتَّى وَقَعَ أَسِيْرًا لِكَلامِهِمْ.
ـ أَسَحَرَكَ محَمَّدٌ، أَيُّهَا العَاقِل الرَّشِيْد؟َ!
هنَالِكَ تَذَكَّرَ مَكَانَتَهُ بَيْنَ العَرَبِ.
قَالُوا لَهُ:
ـ لِمَاذَا لا تَكُونُ أَنْتَ ذَلِكَ النّبِىَّ؟! عِنْدَكَ المَالُ وَالوَلَدُ، وَتَمْلِكُ مَالا يَمْلِكهُ محَمَّدٌ!
ـ لِمَاذَا هَذَا اليَتِيْمُ المَعْدُومُ، الأمِّيُّ الذِي لا يَقْرَأُ وَلا يَكْتُبُ؟!
ـ أَعَجَزَ رَبُّهُ أَنْ يَخْتَارَ مِثْلَكَ؟! 
حَدَّقَ فِي وجوهِهِمْ، وَبَعْدَ فَتْرَةِ صَمْتٍ طَوِيْلَةٍ، قَالَ بِصَوْتٍ غَرِيْبٍ:
ـ نَعَمْ، لِمَاذَا اخْتَارَهُ هُوَ وَأَنَا رَجُلٌ عَظِيْمٌ، لِي شَأْنٌ بَيْنَ سَادَةِ مَكَّةَ وَأَشْرَافِهَا؟!
                                                            *  *  *

خالد قبل الإسلام

هَكَذَا نَشَأَ “خَالِدُ بنُ الوَلِيْدُ” فِي هَذِهِ البِيئَةِ المبْغِضَةِ للنَّبِيِّ وَلِرِسَالَتِهِ، فَتَشَرَّبَ قَلْبهُ الصَّغِيْرُ هَذَا البغْضَ القَاتِمَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى كلِّ كِيَانِهِ، فَكَبِرَ وَالسَّيْفُ فِي يَدِهِ، يَتَحَيَّنُ الفرْصَةَ للقَضَاءِ عَلَى هَذَا الدِّيْنِ.
تَدَرَّبَ عَلَى فنُونِ القِتَالِ كَعَادَةِ أَبْنَاءِ القَبِيْلَةِ..
وَاصَلَ الليْلَ بِالنَّهَارِ عَلَى ظهُورِ الخَيْلِ..
صَارَعَ الشُّجْعَانَ فَهَشَّمَ عِظَامَهُم..
قَاتَلَ الفرْسَانَ..
تَرَكَ نَعِيْمَ وَالِدِهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ، وَعَانَقَ فِي اشْتِيَاقٍ هَجِيْرَ الصَّحْرَاءِ، وَنَهَلَ مِنْ قَسْوَتِهَا وَجَفَائِهَا، وَتَشَرَّبَ خشُونَتَهَا وَصَلابَتَهَا، حَتَّى صَارَ فَارِسَ الفُرْسَانِ فِي مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا.
وَقَدْ سَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ جَسَدُهُ العِمْلاق، فَضْلاً عَنْ ذَكَائِهِ الحَادِّ، وَعِشْقِهِ الشَّدِيْدِ لِخَوْضِ المَعَارِكِ.
وَلَمَّا اجْتَمَعَتْ قرَيْشٌ عَلَى حَرْبِ النَّبِىِّ فِي بَدْرٍ، وَكَسْرِ بَيْضَةِ الإِسْلامِ، كَانَ هوَ حاَمِي حِمَى القَبِيْلَةِ، وَالحَارِسَ وَالمدَافِعَ عَنِ النِّسَاءِ وَالغِلْمَانِ وَالشّيُوخِ، حَتَّى عَادُوا مِنْ بَدْرٍ منْكَسِرِيْنَ.
وَقَدْ نَكَّسوا رؤوسَهُم وَهمْ يجَرْجِرونَ أَذْيَالَ العَارِ وَالهَزِيْمَةِ، فَأَسَرَّهَا فِي نَفْسِهِ، وَأَقْسَمَ بِالآلِهَةِ أَنَّ أَوَّلَ لِقَاءٍ سَوْفَ يَتِمُّ بَيْنَ قرَيْشٍ وَمحَمَّدٍ لأَفْعَلَنَّ بِهِمُ الأَفَاعِيْلَ.
وَقَدْ حَدَثَ، فَكَانَ قَائِدَ جَنَاحِ الفرْسَانِ، وَاسْتَطَاعَ بِمَهَارَتِهِ وَدَهَائِهِ العَسْكَرِيِّ أَنْ يلْحِقَ بِالمسْلِمِيْنَ هَزِيْمَةً منْكَرَةً، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ لَهُمُ الغَلَبَةُ وَالنَّصْرُ.

إسلام خالد

هَا هوَ الفَتَى المَخزومِيُّ قَدْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ، وَصَارَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ مُعَانَاةٍ نَفْسِيَّةٍ شَدِيْدَةٍ رَاحَ يُفَكِّرُ..
مَا الإِسْلامُ؟ إِنَّهُ يَدْعو إِلَى كلِّ خَيْرٍ، وَيَنْهَى عَنْ كلِّ صنوفِ الشَّرِّ.
هَا هوَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُوهُ إِلَى دِيْنِ اللهِ، وَكَانَتْ عَنْ طَرِيْقِ أَخِيْهِ الذِي أَسْلَمَ، قَالَ فِيْهَا:
“أَمّا بَعْدُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَعْجَبَ مِنْ ذهَابِ رَأْيِكَ عَنِ الإِسْلامِ.. وَعَقْلَكَ عَقْلَكَ، وَمِثْلُ الإِسْلامِ يَجْهَلُهُ أَحَدٌ يَا خَالِدٌ؟
سَألَنِي رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:
ـ أَيْنَ خَالِدٌ؟
قلْت: يَأتِ اللهُ بِهِ.
فَقَالَ: مَا مِثْلُ خَالِدٍ يَجْهَلُ الإِسْلامَ، وَلَو كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَحْدَهُ مَعَ المُسْلِمِيْنَ عَلَى المُشْرِكِيْنَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَقَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا فَاتَكَ مِنْهُ، فَقَدْ فَاتَتْكَ مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ.

وفاة خالد

أَسْلَمَ (رَضِي اللهُ عَنْهُ)، وَهَا هُوَ يَحْمِلُ السّيْفَ وَيَخوضُ المَعَارِكَ، بَيْدَ أَنَّ عَبْقَرِيَّتَهُ الفَذَّةَ، وَقدْرَاتِهِ العَسْكَرِيَّةَ الرَّائِعَةَ إِلَى حَدِّ الدَّهْشَةِ وَالإِعْجَابِ، لَمْ تَتَجَلَّ إِلا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
لَقَدْ مَنَحَهُ النّبِيُّ لَقَبَ “سَيْفِ اللهِ”، وَلَمْ تَكُنْ مَهَارَاتُهُ قَدْ تَبَلْوَرَتْ بَعْدُ، لَكِنَّهَا النبؤةُ الصَّادِقَةُ.
يَقولُ خَالِدُ بنُ الوَلِيْدِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهوَ عَلَى فِرَاشِ المَوْتِ:
“شَهِدتُ جَمِيْعَ المَوَاقِعِ، وَقَاتَلْتُ مِائَةَ حَرْبٍ، وَمَا فِي جَسَدِي مَوْضِعٌ إِلا وَفِيهِ ضَرْبَةُ سَيْفٍ، أَوْ طَعْنَةُ رمْحٍ، أَوْ رَمْيَةُ سَهْمٍ، ثمّ هَا أَنَا ذَا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي حَتْفَ أَنْفِي كَمَا يَمُوتُ البَعِيْرُ، فَلا نَامَتْ أَعْيُنُ الجُبَنَاءُ”.
هذا هو خالد بن الوليد
 

اقرأ سيرة هؤلاء الصحابة

عروة بن الزبير

عَمْرو بن العَاصِ

خَالِد بن الوَلِيْدِ

جَابِر بن عَبْدِ اللهِ الأَنصَارِيُّ

معَاذ بن جَبَلٍ

سَعْد بن معَاذٍ

مصْعَب بن عمَيْرٍٍ

قصة بنى الله إبراهيم

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال