بقلم:مُحَمَّد
عَبْد الظَّاهِر المَطَارِقِي
كَانَتِ “النَّوَّارُ بِنْتُ مَالِكٍ”
تَجْلِسُ فِي بَيْتِهَا تَتَرِقَّبُ مَجِيءَ صَغِيْرِهَا، وَلَمَّا دَخَلَ قَفَزَتْ
إِلَيْهِ فِي شَوْقٍ وَلَهْفَةٍ، وَرَاحَتْ تَسْأَلُهُ عَمَّا سَمِعَهُ فِي مَجْلِسِ
النُّوْرِ. ابْتَسَمَ وَهَزَّ رَأْسَهُ ثُمَّ جَلَسَ يَسْرِدُ عَلَيْهَا كُلَّ مَا
دَارَ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَتْ لَهُ:
– هَلْ حَفظْتَ شَيْئًا جَدِيْدًا؟
أَوْمَأ بِرَأْسِهِ عَلامَةَ الإِيْجَابِ، ثُمَّ
انْطَلَقَ بِصَوْتِهِ العَذْبِ، كَأَنَّهُ البُلْبُلَ الشَّادِي، يَتْلُو عَلَيْهَا
آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ سَمِعَهَا لِتَوِّهِ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ. كَانَتِ الكَلِمَاتُ
النُّورَانِيَّةُ تَنْبِثِقُ مِنَ الفَمِ الصَّغِيْرِ تَتَلأَلأُ فِي فَضَاءِ الحُجْرَةِ،
لِتَمْلأَ البَيْتَ سَكِيْنَةً وَأَمْنًا.
قَالَ لَهَا:
– إِنَّنِي أَتَشَوَّقُ لِلجِهَادِ
يَا أُمِّي، فَلَطَالَمَا سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ وَهُوَ يَمْتَدِحُ المجَاهِدِيْنَ
فِي سَبِيْلِ اللهِ، وَيُبَشِّرُ الشُّهَدَاءَ مِنْهُمْ بِالجَنَّةِ. كَمْ أَتَمَنَّى
أَنْ أَحْمِلَ سِلاحًا لأُدَافِعَ بِهِ عَنْ وَجْهِ النَّبِيِّ، أُقَاتِلُ بِهِ هَؤلاءِ
المشْرِكِيْنَ الّذِيْنَ يُحَارِبُوْنَ دِيْنَ اللهِ.
وَرَاحَ الصّغِيْرُ يَتَحَدَّثُ
عَنْ إِصْرَارِهِ عَلَى الجِهَادِ، وَدِفَاعِهِ عَنِ الإِسْلامِ وَالمسْلِمِيْنَ،
حَتَّى امْتَلأَ قَلْبُ الأُمِّ بِالحَمَاسِ، فَانْدَفَعَتْ إِلَى الدَّاخِلِ ثُمَّ
عَادَتْ إِلَيْهِ وَفِي يَدِهَا سَيْفٌ يَلْمَعُ، يَكَادُ بَرِيْقُهُ يَخْطفُ الأَبْصَارُ.
قَالَتْ لَهُ: هَيَّا إِذَنْ.
وَأَمْسَكَتْ بِيَدِ ابْنِهَا-
رَضْيَ اللهُ عَنْهُ- وَذَهَبَا سَوِيًّا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- اسْتَوْقَفَتْهُ، وَكَانَ يَسْتَعِدُّ لِغَزْوَةِ بَدْرٍ، قَدَّمَتْ وَلَدَهَا
إِلَى النّبِيّ وَكُلُّهَا أَمَلٌ أَنْ يَتَقَبَّلَهُ ضِمْنَ هَؤُلاءِ المجَاهِدِيْنَ.
نَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ-
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَابْتَسَمَ؛ فَقَدْ كَانَ السَّيْفُ الّذِي يَحْمِلُهُ
الصَّغِيْرُ أَطْوَلَ مِنْ قَامَتِهِ. مَسَحَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِرِفْقٍ عَلَى رَأْسِهِ، وَرَدَّهُ
رَدًّا جَمِيْلاً بَعْدَ أَنْ طَيَّبَ خَاطِرَهُ بِبَعْضِ الكَلِمَاتِ.
عَادَ- رَضْيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى
بَيْتِهِ يُفَكِّرُ، مَا الّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَيَنَالَ رِضَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ،
وَيَتَقَرَّبَ بِهِ إِِلَى قَلْبِ النَّبِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ أَمَامَهُ إِلا الانْكِبَابَ
عَلَى التَّعُلُّمَ، فَاسْتَطَاعَ أَنْ يُجِيْدَ القِرَاءَةَ وَالكِتَابَةَ.
وَمَرَّتِ الأَيَّامُ، والابْنُ
لا يَزَالُ يَكْتُبُ، وَيُحْسِنُ مِنْ إِجَادَتِهِِ لِلخَطِّ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْ
ذَلِكَ، ذَهَبَ إِلَى أُمِّهِ وَقَالَ لَهَا:
– أُمَّاهُ، لَقَدْ فَكَّرْتُ
فِي وَسِيْلَةٍ أَسْتَطِيْعُ أَنْ أَتَقَرَّبَ بِهَا إِلَى قَلْبِ النَّبِيِّ وَأَصِيْرَ
مُلازِمًا لَهُ، كَمَا أَنَّنِي سَأُقَدِّمُ خِدْمَةً جَلِيْلَةً لِدِيْنِ اللهِ،
عَسَى أَنْ أَنَالَ عَلَيْهَا الأَجْرَ العَظِيْمَ مِنْ رَبِّ العَالَمِيْنَ. نَظَرَتِ
الأُمُّ إِلَى وَلَدِهَا وَقَدْ تَمَلَّكَتَهَا الدَّهْشَةُ، وَأَخْبَرَهَا الابْنُ
بِفِكْرَتِهِ، فَأَعْجَبَتْهَا وَتَمَنَّتْ مِنْ أَعْمَاقِ قَلْبِهَا، وَهِي تَدْعُو
اللهَ- عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ تَنَالَ الفِكْرَةُ رِضَا النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
حَدَّثَتِ “النَّوَّارُ”
رِجَالاً مِنْ قَوْمِهَا بِرَغْبَةِ الغُلامِ، وَذَكَرَتْ لَهُمْ فِكْرَتَهُ، فَمَضَوا
بِهِ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ وَقَالُوا:
ـ يَا نَبِيَّ اللهِ، هَذَا
ابْنُنَا زَيْدٌ يَحْفَظُ سَبْعَ عَشْرَةَ سُوْرَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَيَتْلُوْهَا
صَحِيْحَةً كَمَا أُنْزِلَتْ عَلَى قَلْبِكَ، وَهُوَ فَوْقَ ذَلِكَ حَاذِقٌ، يُجِيْدُ
الكِتَابَةَ وَالقِرَاءَةَ، وَهُوَ يُرِيْدُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِذَلِكَ إِلَيْكَ،
وَأَنْ يَلْزَمَكَ، فَاسْمَعْ مِنْهُ إِذَا شِئْتَ.
وَدَعَاهُ النَّبِيُّ- صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ رَاحَ يَخْتَبِرُهُ،
فَإِذَا بِالغُلامِ يَقْرَأُ آيَاتِ اللهِ غَضَّةً طَرِيَّةً كَمَا سَمِعَهَا مِنْ
فَمِ النَّبِيِّ الطَّاهِرِ، قِرَاءَةً صَحِيْحَةً، لا يَشُوْبُهَا شَائِبَةً. ابْتَسَمَ
النَّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ. وَبَعْدَ أَياَمٍ
أَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَلَّفَهُ بِكِتَابَةِ
الوَحْي، بَعْدَ أَنْ تَأَكَّدَ مِنْ أَمَانَتِهِ وَصِدْقِهِ، فَصَارَ الغُلامُ أَحَدَ
الذِيْنَ يُلازِمُوْنَ النَّبِيَّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْمَعُ القُرْآنَ
مِنْ فَمِِ النَّبِيِّ غَضًّا ثُمَّ يَكْتُبُهُ، وَقَدْ أَحَسَّ النَّبِيُّ- صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَكَاءِ الغُلامِ وَمَوَاهِبِهِ، فَقَالَ لَهُ:
– تَعَلَّمْ لِي كِتَابَةََ
اليَهُوْدِ؛ فَإِنِي لا آمَنُهُمْ عَلَى مَا أَقُوْلُ.
فَقَالَ عَلَى الفَوْرِ: لَبَّيْكَ
يَا رَسُوْلِ اللهِ.
وَأَكَبَّ مِنْ تَوِّهِ عَلَى
العِبْرِيَّةِ حَتَّى أَجَادَهَا فِي وَقْتٍ يَسِيْرٍ، وَجَعَلَ يَكْتُبُهَا لِرَسُوْلِ
اللهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ لِلْيَهُوْدِ، وَيَقْرَؤُهَا لَهُ إِذَا هُمْ كَتَبُوا
إِلَيْهِ.
ثُمَّ تَعَلَّمَ- رَضْيَ
اللهُ عَنْهُ- السِّرْيَانِيَّةَ بِأَمْرٍ مِنْهُ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَهِيَ لُغَةٌ كَانَتْ مُنْتَشِرَةً بَيْنَ الكَثِيْرِ مِنَ القَبَائِلِ، وَلَقِيَ
رَسُوْلُ اللهِ رَبَّهُ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، فَلَمْ يَنْتَهِ دَوْرُ الصَّحَابِيُّ
الجَلِيْلُ- رَضْيَ اللهُ عَنْهُ- فَكَانَ لَهُ أَعْظَمُ الأَثَرِ فِي دَرْءِ الفِتْنَةِ
وَوَأْدِهَا فِي مَكَانِهَا، حِيْنَ اجْتَمَعَ المهَاجِرُوْنَ وَالأنْصَارُ تَحْتَ
السَّقِيْفَةِ وَاخْتَلَفُوا فِيْمَا بَيْنَهُمْ أَيُّ جَمَاعَةٍ تَصْلُحُ لأَنْ تُعَيِّنَ
خَلِيْفَةً، وَكَانَ الأَنْصَارُ يَرَوْنَ أَنَّ لَهُمُ الحَقَّ فِي تَنْصِيْبِ خَلِيْفَةٍ
للْمُسْلِمِيْنَ، بَيْنَمَا المهَاجِرُوْنَ يَرَوْنَ أَنَّ الحَقَّ بِجَانِبِهْمْ.
هُنَالِكَ حَزَمَ الصَّحَابِيُّ الجَلِيْلُ الأَمْرَ، وَقَالَ كَلِمَةَ الحَقِّ التِي
هَدَّأَتِ النُّفُوْسَ، وَجَمَعََتِ الفَرِيْقَانِ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، حَيْثُ
قَالَ لَهُمْ:
– يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ،
إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ كَانَ مِنَ المهَاجِرِيْنَ؛ فَيَكُوْنَ خَلِيْفَتُهُ مُهَاجِرًا
مِثْلَهُ.
وِإِنَّا كُنَّا أَنْصَارَ رَسُوْلِ
اللهِ؛ فَنَكُوْنَ أَنْصَارًا لِخَلِيْفَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَعْوَانًا لَهُ عَلَى
الحَقِّ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَالَ: “هَذَا خَلِيْفَتُكُمْ
فَبَايِعُوْهُ”.
وَلَمَّا تَوَلَّى الصِّدِّيْقُ الخِلافَةَ، وَحَدَثَ
مَا حَدَثَ مِنَ الفِتْنَةِ، وَقُتِلَ مِنَ المسْلِمِيْنَ نَفَرٌ كَثِيْرٌ، اجْتَمَعَ
رَأْيُهُ مَعَ رَأْي عُمَرَ فِي جَمْعِ القُرْآنِ فِي كِتَابٍ وَاحٍد، وَاسْتَطَاعَا
أَنْ يُقْنِعَا هَذَا الصَّحَابِيَّ، فَقَامَ بِجَمْعِهِ بَعْدَ جَهْدٍ شَاقٍّ كَانَ
أَهْوَنَ مِنْهُ نَقْلُ الجَبَلِ مِنْ مَكَانِهِ حَجَرًا حَجَرًا، لَكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعَانَهُ وَوَفَّقَهُ لِهَذَا العَمَلِ المُضْنِي الشَّاقِّ.
وَلَمْ يَتَوَقَّفْ جَهْدُهُ
عِنْدَ هَذَا الحَدِّ، بَلِ اسْتَعَانَ بِهِ الخَلِيْفَةُ الرَّاشِدُ عُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانَ فِي تَوْحِيْدِ المُصْحَفِ المَوْجُوْدِ عِنْدَ السَّيِّدَةِ حَفْصَةَ.
لَقَدْ كَانَ بِحَقٍّ- رَضْيَ
اللهُ عَنْهُ- تُرْجُمَانَ القُرْآنَ، وَمَنَارَةَ الإِسْلامِ، وَأَعْمَالُهُ العَظِيْمَةُ
الجَلِيْلَةُ سَتَظَلُّ دَائِمًا خَالِدَةً إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الأَرْضَ وَمَنْ
عَلَيْهَا، فَجَزَاهُ اللهُ عَنِ المُسْلِمِيْنَ وَعَمَّا أَسْدَاهُ لِهَذَا الدِّيْنِ
خَيْرَ الجَزَاءِ، وَرَضْيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.