مَعَ أَوَّلِ خَيْطٍ أَبْيَضَ
يُبَشِّرُ بِالصَّبَاحِ، ابْتَدَأَ فِي التَّحَرُّكِ، السُّكُوْنُ يَلُفُّ مَكَّةَ،
وَالنُّعَاسُ لا يَزَالُ يُهَيْمِنُ عَلَى بُيُوْتِهَا. مَضَى حَذِرًا يَتَلَفَّتُ،
وَقَدْ يَمَّمَ وَجْهَهُ شَطْرَ دَارِ ” الأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الأَرْقَمِ”،
وَبِسُرْعَةٍ وَخِفَّةٍ اسْتَطَاعَ أَنْ يَصِلَ إِلَى هُنَاكَ، فَوَجَدَ “عَمَّارَ
بْنَ يَاسِرٍ” يَقْتَرِبُ هُوَ الآخَرُ مِنَ البَابِ.. كَانَ يَعْرِفُهُ مِنْ
قَبْلُ. تَرَدَّدَ لَحْظَةً ثُمَّ دَنَا مِنْهُ، وَقَالَ:
– مَا تُرِيْدُ يَا عَمَّارُ؟
نَظَرَ إِلَيْهِ عَمَّارُ بِتَفَحُّصٍ
يَتَأَمَّلُ مَلامِحَ وَجْهِهِ، ثُمَّ هَزَّ رَأْسَهُ وَقَالَ لَهُ:
– بَلْ مَا تُرِيْدُ أَنْتَ؟
لَيْسَ ثَمَّةَ وَقْتٌ، وَهُوَ يَعْرِفُ عَمَّارًا
جَيِّدًا. أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ نَحْوَ دَارِ الأَرْقَمِ، وَقَالَ فِي لَكْنَتِهِ
الرُّوْمِيَّةِ المعْرُوْفَةِ:
– أَرَدتُ أَنْ أَدْخُلَ عَلَى
هَذَا الرَّجُلِ، فَأَسْمَعُ مِنْهُ مَا يَقُوْلُ.
ابْتَسَمَ عَمَّارٌ وَهَزَّ رَأْسَهُ
فِي اطْمِئْنَانٍ قَائِلاً:
– وَأَنَا أُرِيْدُ ذَلِكَ أَيْضًا.
– إِذَنْ نَدْخُلُ مَعًا عَلَى
بَرَكَةِ اللهِ.
دَخَلَ الرَّجُلانِ عَلَى رَسُوْلِ
اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَاحَا يَسْتَمِعَانِ إِلَيْهِ فِي تَشَوُّقٍ،
فَأَشْرَقَ نُوْرُ الإِيْمَانِ فِي صَدْرَيْهِمَا، وَتَسَابَقَا فِي مَدِّ أَيْدِيْهِمَا
إِلَيْهِ، وَشَهِدَا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ،
ثُمَّ أَمْضَيَا سَحَابَةَ يَوْمِهِمَا عِنْدَهُ يَنْهَلانِ مِنْ هَدْيِهِ، وَيَنْعَمَانِ
بِصُحْبَتِهِ. وَلَمَّا أَقْبَلَ اللّيْلُ وَهَدَأَتِ الحَرَكَةُ خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ
تَحْتَ جُنْحِ الظَّلامِ، وَقَدْ حَمَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ النُّوْرِ فِي صَدْرِهِ
مَا يَكْفِي لإِضَاءَةِ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا.
كَانَتِ الدَّعْوَةُ لا تَزَالُ سِرًّا، بَيْدَ
أَنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ قَدِ اكْتَشَفُوا هَذَا الأَمْرَ، فَرَاحُوا بِكُلِّ ضَرَاوَةٍ
يُنَكِّلُوْنَ بِالمُسْلِمِيْنَ الّذِيْنَ اعْتَنَقُوا هَذَا الدِّيْنَ الجَدِيْدَ.
كَانَ صَنَادِيْدُ مَكَّةَ يَصُبُّونَ
العَذَابَ فَوْقَ هَؤُلاءِ الضُّعَفَاءِ رَيْثَمَا يَعُوْدُوْنَ إِلَى مِلَّتِهِمْ،
وَلَكِنْ هَيْهَاتَ، فَأَيُّ قُوَّةٍ تِلْكَ التِي تَسْتَطِيْعُ أَنْ تُحَرِّكَ تِلْكَ
الجِبَالَ الرَّاسِيَاتِ. لَقَدْ تَمَكَّنَ الإِيْمَانُ مِنْ هَذِهِ القُلُوْبِ، فَصَارَتْ
أَشَدَّ مِنَ جِبَالِ مَكَّةَ.
يَا لَلأَقْدَارِ، لَقَدْ كَانَ يَعِيْشُ مُتْرَفًا،
أَمِيْرًا، نَبِيْلاً، يُخَيِّمُ عَلَى حَيَاتِهِ النَّعِيْمُ؛ فَقَدْ كَانَ أَبُوْهُ
حَاكِمَ “الأيَلَةِ” وَعَامِلاً عَلَيْهَا لِكِسْرَى، وَكَانَ يَعِيْشُ
مَعَهُ ابْنُهُ الصَّغِيْرُ فِي قَصْرِهِ المَنِيْفِ، الّذِي يُطِلُّ عَلَى شَاطِئِ
الفُرَاتِ، مِمَّا يَلِي الجَزِيْرَةَ وَالمَوْصِلَ. كَانَ أَبُوْهُ مِنْ بَنِي
“نُمَيْرٍ”، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَنِي “تَمِيْمٍ”، إِنَّهُ
عَرَبِيٌّ حَتَّى النُّخَاعِ، عَرَبِيٌّ أَصِيْلٌ رَغْمَ صِغَرِ سِنِّهِ، وَرَغْمَ
الأَحْدَاثِ السَّرِيْعَةِ المُتَتَابِعَةِ التِي أَدْمَتْ قَلْبَ وَالِدِاهِ حِيْنَ
تَعَرَّضَتِ البِلادُ لِهَجْمَةِ رُوْمِيَّةَ، أَسَرَتْ فلذة كَبِدِهِمْ، وَانْقَطَعَ
خَبَرُهُ عَنْهُمْ. وًفِي بِلادِ الرُّوْمِ ذَاقَ طَعْمَ الإِذْلالِ وَالعُبُوْدِيَّةِ،
تَنَقَّلَ مِنْ سَيِّدٍ إِلَى آخَرَ، شَاهَدَ الظُّلْمَ بِعَيْنَي رَأْسِهِ وَهُوَ
يَتَسَاقَطُ فَوْقَ رُؤوسِ النَّاسِ، تَمَنَّى الخَلاصَ وَالعَوْدَةَ إِلَى قَصْرِ
أَبِيْهِ الّذِي كَانَ يُعِدُّهُ مُنْذُ نُعُوْمَةِ أَظْفَارِهِ لِكَي يُصْبِحَ حَاكِمًا
عَلَى تِلْكَ البِلادِ، لَعَلَّهُ يَحْلُمُ، وَسَوْفَ يَصْحُو مِنْ نَوْمِهِ لِيَنْقَشِعَ
هَذَا الكَابُوْسُ الأَحْمَقُ، فَيَعُوْدَ إِلَى شُرُفَاتِ قَصْرِهِ يُطِلُّ عَلَى
السَّمَاءِ الصَّافِيَةِ، وَيَتَأَمَّلُ الفُرَاتَ وَهُوَ يَتَحَرَّكُ أَمَامَهُ كَطِفْلٍ
مُتَوَقِّدِ الحَرَكَةِ، لَكِنَّهَا الحَقِيْقَةُ المُرَّةُ، هَاهُوَ الوَاقِعُ بِكُلِّ
قَسْوَتِهِ وَحِدَّتِهِ يَتَجَسَّدُ أَمَامَ عَيْنَيْهِ لا مَفَرَّ.
لَكِنَّ الكَلِمَاتِ الّتِي سَمِعَهَا
مِنْ ذَلِكَ الكَاهِنِ النَّصْرَانِيِّ لا تَزَالُ تَتَرَدَّدُ فِي أُذنَيْهِ:
“لَقَدْ أَطَلَّ زَمَانٌ
يَخْرُجُ فِيْهِ مِنْ مَكَّةَ فِي جَزِيْرَةِ العَرَبِ نَبِيٌّ يُصَدِّقُ بِرِسَالَةِ
عِيْسَى بْنِ مَرْيَمَ، وَيُخْرِجُ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوْرِ”.
نَعَمْ كَانَتِ الكَلِمَاتُ بِمَثَابَةِ
البَلْسَمِ الشَّافِي، كُلَّمَا تَمَعَّنَ فِي الكَلِمَاتِ وَجَدَ جَسَدَهُ يَنْتَفِضُ.
إِنَّ إِحْسَاسًا غَرِيْبًا يُلامِسُ أَوْتَارَ
قَلْبِهِ، هَلْ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ تَنْتَهِيَ هَذِهِ الأَيَّامُ الحَالِكَةُ، وَتَتَكَحَّلَ
عَيْنُهُ بِرُؤْيَةِ هَذَا النَّبِيِّ؟ وَلَكِنْ.. أَيْنَ؟ وَمَتَى؟
وَتَمُرُّ الأَيَّامُ، وَيَتَخَلَّصُ
مِنَ الأَسْرِ لِيَنْطَلِقَ نَحْوَ مَكَّةَ يَحْدُوْهُ الأَمَلُ فِي تَحْقِيْقِ حُلْمِهِ
القَدِيْمِ. اشْتُهِرَ فِي مَكَّةَ بِالرُّوْمِيِّ؛ لِهَيْئَتِهِ وَرِدَائِهِ وَلَكْنَتِهِ،
فَقَدْ كَانَ أَحْمَرَ شَدِيْدَ الحُمْرَةِ، كَثِيْفَ شَعْرِ الرَّأْسِ، مُتَوَسِّطَ
الطُّوْلِ، يُشْبِهُ كَلامَهُ أَوْلادَ الرُّوْمِ مِنْ طُوْلِ مُعَاشَرَتِهِ لَهُمْ،
لَكِنَّهُ كَانَ يَرُدُّ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَيَقُوْلُ:
– أَنَا لَسْتُ رُوْمِيًّا كَمَا
تَظُنُّوْنَ، بَلْ أَنَا عَرَبِيٌّ بْنُ عَرَبِيٍّ، وَأُمِّي أَيْضًا عَرَبِيَّةٌ،
أَنَا لا يُمْكِنُ أَنْ أَنْسَى جُذُوْرِي أَبَدًا.
فَلا يَسَعُهُمْ إِلا الضَّحِكَاتُ الصَّاخِبَةُ،
وَإِصْرَارُهُمْ عَلَي أَنَّهُ “رُوْمِيٌّ”.
كَانَ يَتَمَتَّعُ بِالذَّكَاءِ
الشَّدِيْدِ، وَرَوْحِ الدُّعَابَةِ، فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَجْمَعَ ثَرْوَةً كَبِيْرَةً
بِعَمَلِهِ فِي التِّجَارَةِ وَمُشَارَكَتِهِ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ جَدْعَانَ، كَمَا
اشْتُهِرَ بَيْنَ أَبْنَاءِ مَكَّةَ بِقُدْرَتِهِ الفَائِقَةِ عَلَى التَّصْوِيْبِ
بِالنِّبَالِ، وَإِصَابَةِ الهَدَفِ مَهْمَا كَانَ بَعِيْدًا. وَلَمَّا هَاجَرَ
النَّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مَكَّةَ إِلَي المَدِيْنَةِ، حَاوَلَ
أَنْ يَلْحَقَ بِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَدْ كَانَ أَحَدَ الّذِيْنَ يُلاقُوْنَ
الأَهْوَالَ مِنْ رُؤوسِ الكُفْرِ بِمَكَّةَ، مَنَعُوْهُ، وَحَاصَرُوْهُ، بَلْ وَحَدَّدُوا
إِقَامَتَهُ دَاخِلَ بَيْتِهِ، وَجَعَلُوا عَلَى بَابِهِ بَعْضَ الفِتْيَانِ يُمْسِكُوْنَ
بِالسُّيُوْفِ، لَكِنَّ رُوْحَهُ تَهْفُو نَحْوَ حَبِيْبِهِ “مُحَمَّدٍ”-
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَحَاوَلَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى اسْتَطَاعَ
أَنْ يَحْتَالَ عَلَيْهِمْ وَيَنْطَلِقَ فَوْقَ صَهْوَةِ جَوَادِهِ نَحْوَ المَدِيْنَةِ،
لَكِنَّهُمْ اكْتَشَفُوا أَمْرَهُ، فَتَبِعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى اقْتَرَبُوا
مِنْهُ، فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَانْتَشَلَ مَا فِي كنَانَتِهِ، ثُمَّ زَمْجَرَ
قَائِلاً:
ـ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَقَدْ
عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْمَاكُمْ رَجُلاً، وَأْيْمُ اللهِ لا تَصِلُوْنَ إِلَيَّ
حَتَّى أَرْمِي بِكُلِّ سَهْمٍ مَعِي فِي كنَانَتِي، ثُمَّ أَضْرِبُ بِسَيْفِي مَا
بَقِيَ فِي يَدِي مِنْهُ شَيءٌ، افْعَلُوا مَا شِئْتُم.
قَالُوا لَهُ:
– أَتَيْتَنَا صُعْلُوْكًا حَقِيْرًا،
فَتَغَيَّرَ حَالُكَ.
قَالَ لَهُمْ: إِنْ شِئْتُمْ
دَلَلْتُكُمْ عَلَى مَالِي وَثِيَابِي بِمَكَّةَ وَخَلَّيْتُمْ سَبِيْلِي.
قَالُوا: نَعَمْ.
لَقَدْ مَلأَ نُوْرُ الإِيْمَانِ
قَلْبَهُ، فَأَحَسَّ أَنَّ مَالَ الدُّنْيَا وَنَعِيْمَهَا كُلَّهُ لا يُسَاوِي شَيئًا
بِجوَارِ نَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى وَجْهِ حَبِيْبِهِ المُصْطَفَى- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- والاسْتِمَاعِ إِلَى كَلامِه العَذْبِ، فَأَعْطَاهُمْ كُلَّ مَا يَمْلكُ،
ثُمَّ انْطَلَقَ فِي سُرْعَةِ البَرْقِ نَحْوَ المَدِيْنَةِ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ-
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْتَسَمَ لَهُ قَائِلاً:
“رَبِحَ البَيْعُ أَبَا
يَحْي.. رَبِحَ البَيْعُ أَبَا يَحْي”.
مَنْ هُوَ هَذَا الصَّحَابِيُّ:
هَلْ هُوَ:
– مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ؟
– صُهَيْبُ بْنُ سَنَانٍ؟
– حَكِيْمُ بْنُ حِزَامٍ؟
هُوَ: صُهَيْبُ
بْنُ سَنَانٍ (رَضْيَ اللهُ عَنْهُ).