بقلم: مُحَمَّد عَبْد الظّاهِر
المَطَارِقِي
اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَا النّبِيِّ- صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالدُّمُوعِ وَهُو يُمْسِكُ بِالقِلادَةِ وَيَتَأَمَّلُهَا فِي
شُجُوْنٍ، هَا هِيَ القِلادَةُ تَتَفَجَّرُ بِالذِّكْرَيَاتِ العَطِرَةِ، وَأَيُّ
ذِكْرَيَاتٍ تِلْكَ الّتِي تَحْمِلُ أَرِيْحَ أَجْمَلِ وَأَرَقِّ إِنْسَانَةٍ عَرَفَهَا
فِي حَيَاتِهِ، وَهَلَ مِنْ ذِكْرَيَاتٍ أَطْيَبَ أَو أَرْوَعَ مِنْ خَدِيْجَةَ (رَضْيَ
اللهُ عَنْهَا)؟! آمَنَتْ بِهِ بَعْدَ إِذْ كَفَرَ النَّاسُ.. وَصَدَّقَتْهُ إِذْ
كَذَّبَهُ النَّاسُ.. وَوَاسَتْهُ بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَهُ النَّاسُ، وَرَزَقَهُ
اللهُ- عَزَّ وَجَلَّ- مِنْهَا الأَوْلادَ.
كَانَ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ “القِلادَةَ” تَخُصُّ ابْنَتَهُ “زَيْنَبَ”،
وَقَدْ أَرْسَلَتْهَا لِتَفُكَّ بِهَا أَسْرَ زَوْجِهَا.
نَعَمْ، كَانَ زَوْجُهَا عَلَى
دِيْنِ قَوْمِهِ، وَرَفَضَ الإِذْعَانَ لِرَغبَتِهَا، فَقَالَتْ لَهُ:
– إِنَّ اللهَ ابْتَعَثَ أَبِي
نَبِيًّا، فَكَانَ يَبْتَسِمُ إِلَيْهَا فِي تَوَدُّدٍ قَائِلاً:
– لا أَسْتَطِيْعُ أَنْ أُفَارِقَ
دِيْنَ آبَائِي وَأَجْدَادِي. أَمَّا
أَبَاكِي فَهُو عَلَى العَينِ وَالرَّأْسِ.
هِيَ تَعْلَمُ مَدَى إِخْلاصِهِ
لَهَا، وَكَمْ يَفِيْضُ قَلْبُهُ حُبًّا نَحْوَهَا.
يَوْمَ أَنْ زُفَّتْ إِلَيْهِ
كَانَتِ الفَرْحَةُ تَمْلأُ أَرْجَاءَ البِيْتِ.. أُمُّهَا خَدِيْجَةُ كَانَتْ فِي
أَقْصَى دَرَجَاتِ السَّعَادَةِ، تُشَارِكُهَا شَقِيْقَاتُهَا: “رُقَيَّةُ،
وَأُمُّ كُلْثُوْمٍ، وَأُخْتُهُمُ الصَّغِيْرَةُ فَاطِمَةُ، أَمَّا أَبَوهُمْ فَكَانَ
رَاضِيًا عَنْ تِلْكَ الزِّيْجَةِ. أَلَيْسَ ابْنَ خَالَتِهَا هَالَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ،
وَتِلْكَ رَغْبَةُ خَدِيْجَةَ، فَضْلاً عَنْ أَخْلاقِهِ الْجَمَّةِ وَصِفَاتِهِ
النَّبِيْلَةِ التِي تَجُوْبُ الآفَاقَ؟
كُلُّ البُيُوتِ كَانَتْ تَتَمَنَّي
مُصَاهَرَتَهُ، وَلَمَّا اتَّجَهَ صَوْبَ هَذَا البَيْتِ قَالُوا:
– لَقَدْ أَحْسَنَ الفَتَى
الاخْتِيَارَ، وَهَلْ هُنَاكَ بَيْتٌ أَكْرَمُ مِنْ بَيْتِ مُحَمَّدٍ؟ وَهَلْ هُنَاكَ
بَنَاتٌ فِي رَوْعَةِ وَأَخْلاقِ بَنَاتِهِ. هُنَّ بَنَاتُ الصَّادِقِ الأمِيْنِ،
وَالأُمُ هِيَ صَاحِبَةُ الشَّرَفِ الرَّفِيْعِ.
وَلَمَّا تَمَّتْ مَرَاسِمُ
الزِّفَافِ، تَقَدَّمَتْ خَدِيْجَةُ بِهَدِيَّةٍ إِلَى ابْنَتِهَا، هِيَ تِلْكَ “القِلادَةِ” التِي بَيْنَ يَدَي النَّبِيِّ الآنَ.
هُويَعْلَمُ أَنَّ زَوْجَ ابْنَتِهِ
خَرَجَ إِلَى هَذِهِ الحَرْبِ مُرْغَمًا، كَانَ مُضْطرًّا لِخَوْضِهَا، لَكِنَّهُ
سَقَطَ أَسِيْرًا فِي أَيْدِي المُسْلِمِيْنَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِفِدْيَةٍ
كَبَقِيَّةِ الأَسْرَى. وَالفِدْيَةُ بَيْنَ الأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالأَرْبَعَةِ
آلافٍ، حَسبَ مَنْزِلَةِ الأَسِيْرِ، وَمَدَى ثَرَائِهِ وَمَكَانَتِهِ بَيْنَ قَوْمِهِ.
أَمْسَكَ النّبِيُّ صلي الله
عليه وسلم بِالقِلادَةِ وَرَفَعَهَا لأَعْلَى قَائِلاً:
ـ إِنَّ زَيْنَبَ بَعَثَتْ بِهَذَا
المَالِ لافْتِدَاءِ زَوْجِهَا، فَإنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيْرَهَا
وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا مَالَهَا فَافْعَلُوا.
أَحَسَّ الصَّحَابَةُ- رَضِيَ
اللهُ عَنْهُمْ- بِمَا يَجِيْشُ بِهِ قَلْبُ نَبِيُّهُمْ صلي الله عليه وسلم فَأَسْرَعُوا
جَمِيْعًا قَائِلِيْنَ:
ـ نَعَمْ، وَنِعْمَةِ عَيْنٍ
يَا رَسُوْلَ اللهِ.
وَهَكَذَا انْطَلَقَ الأَسِيْرُ
نَحْو مَكَّةَ كَعُصْفُوْرٍ طَارَ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَدْ حَمَّلَهُ النَّبِيُّ-
صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَانَةَ أَنْ يُسَيِّرَ إِلَيْهِ ابْنَتَهُ مِنْ
غَيْرِ إِبْطَاءٍ، وَقَدْ فَعَلَ.
وَأَقْبَلَتْ مُهْجَةُ قَلْبِهِ-
رَضْيَ اللهُ عَنْهَا- بَعْدَ مُعَانَاةٍ قَاسِيَةٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. جَاءَتْ
وَقَلْبُهَا يَتَفَطَّرُ حُزْنًا عَلَى فِرَاقِ زَوْجِهَا، وَأَشَدُّ مَا أَحْزَنَهَا
وَمَلأَ قَلْبَهَا بِالآلاَم ِوالأَوْجَاعِ، هُوتَمَسُّكُ زَوْجِهَا بِعِبَادَةِ
الأَصْنَامِ، والرُّكُوْنُ إِلَى قَومِهِ، فَكَانَتْ تَدْعُو اللهَ مِنْ صَمِيْمِ
قَلْبِهَا أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ.
وَهَلْ تَنْسَى حِيْنَ نَزَلَتِ الرِّسَالَةُ عَلَى
أَبِيْهَا، أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ كُلُّهَا عَلَى مُضَايَقَتِهِ، بَلْ طَلَبُوا مِنْ
زَوْجِهَا أَنْ يَقُوْمَ بِتَطْلِيْقِهَا كَمَا فَعَلَ عُتْبَةُ وَعُتَيْبَةُ مَعَ
رُقَيَّةَ وَأُمِّ كُلْثُوْمٍ، لَكِنَّهُ أَبَى ذَلِكَ.
قَالُوا وَهُمْ يَجْلِسُوْنَ
فِي حِجْرِ الكَعْبَةِ:
– وَيْحَكُمْ، إِنَّكًمْ قَدْ
حَمَلْتُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ هُمُوْمَهُ بِتَزْوِيْجِ فِتْيَانِكُمْ مِنْ بَنَاتِهِ،
فَلَو رَدَدْتُمُوْهُنَّ
إِلَيْهِ لانْشَغَلَ بِهِنَّ عَنْكُمْ.
لَكِنَّ زَوْجَهَا كَرِيْمَ
الأَخْلاقِ صَاحَ قَائِلاً:
– لا، واللهِ إنِّي لا أُفَارِقُ
صَاحِبَتِي، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا نِسَاءَ الدُّنْيَا جَمِيْعَهُمْ.
يَا إِلَهِي.. كَمْ يَمْتَلأُ
قَلْبُهَا بِحُبِّهِ وَتَتَمَنَّى أَنْ يَهْدِيَهُ اللهُ- عَزَّ وَجَلَّ- لِيُقْبِلَ
عَلَى دِيْنِهِ فَيَفُوزَا بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
كَانَ “أَبُو العَاصِ بْنِ
الرَّبِيْعِ” تَاجِرًا أَمِيْنًا، اشْتُهِرَ بِرَحَلاتِهِ بَيْنَ الشَّامِ وَاليَمَنِ،
وَكَانَ السَّادَةُ وَالكُبَرَاءُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُحَمِّلُوْهُ بَضَائِعَهَمْ
وَأَمْوَالَهَمْ لِيُتَاجِرَ لَهُمْ فِيْهَا، فَيَعُوْدَ مُحَمَّلاً بِالمَكَاسِبِ
وَالأَرْبَاحِ. كَانَ يَحْتَالُ لِنَفْسِهِ حَتَّى لا يَقَعَ أَسِيْرًا فِي أَيْدِي
المُسْلِمِيْنَ، وَلَكِنَّ قَافِلَتَهُ لَمْ تَسْتَطِعْ الإِفْلاتَ هَذِهِ المَرَّة،
فَوَقَعَتْ جَمِيْعُهَا فِي أَيْدِي المُسْلِمِيْنَ، وَكَانَتْ مُثْقَلَةً بِبَضَائِعَ
كَثِيْرَةٍ، أَكْثَرَ مِنَ المَرَّاتِ السَّابِقَةِ.
أَمَّا هُو فَقَدْ تَفَلَّتَ
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيْهِمْ وَهَرِبَ إِلَى دَاخِلِ المَدِيْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
مَكَانٌ يَأَمَنُ عَلَى نَفْسِهِ فِيْهِ إِلا بَيْتَ “زَيْنَبَ” زَوْجَتِهِ،
فَطَرَقَ بَابَهَا وَطَلَبَ مِنْهَا أَنْ تُجِيْرَهُ. اهْتَزَ قَلْبُهَا بِعُنْفٍ
وَهِي تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَتَتَأَمَّلُ صُوْرَتَهُ وَهُويَقِفُ أَمَامَهَا كَطَائِرٍ
مًبَلَّلٍ بِالمَاءِ فِي يَوْمٍ قَارِسٍ. أَجْلَسَتْهُ، وَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ مَا
يُهَدِّئُ رَوْعَهُ، ثُمَّ ذَهَبَتْ إِلَى النَّبِيِّ بِالمَسْجِدِ، وَكَانَ يُصَلِّي
بِالنَّاسِ، وَهَتَفَتْ قَائِلَةً مِنْ خَلْفِ الصُّفُوْفِ:
ـ أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي
أَجَرْتُ أَبَا العَاصِ بْنِ الرَّبِيْعِ!!
فَلَمَّا فَرِغَ النَّبِيُّ-
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ صَلاتِهِ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، وَقَالَ:
ـ أَيُّهَا النَّاسُ، هَلْ سَمِعْتُمْ
مَا سَمِعْتُ؟
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: وَالّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ
بِيَدِهِ، مَا عَلِمْتُ بِشَيءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى سَمِعْتُ مَا سَمِعْتُمْ.
ثُمَّ قَالَ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
ـ “إِنَّهُ يُجِيْرُ عَلَى
المُسْلِمِيْنَ أَدْنَاهُمْ”، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُوْلُ اللهِ- صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ، وَقَالَ:
ـ ” أَيْ بُنَيَّة، أَكْرِمِي
مَثْوَاهُ، وَلا يَخْلُصْ إِلَيْكِ، فَإِنَّكِ لا تَحِلِّيْنَ لَهُ”.
ثُمَّ بَعَثَ إِلَى السَّرِيَّةِ
الّذِيْنَ أَصَابُوا مَالَهُ، فَقَالَ لَهُمْ:
إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنَّا
حَيْثُ عَلِمْتُمْ ، وَقَدْ أَصَبْتُمْ لَهُ مَالاً، فَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَرُدُّوا
عَلَيْهِ الّذِي لَهُ، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، إِنْ أَبَيْتُمْ فَهُوفَيْئُ اللهِ
الّذِي أَفَاءَ عَلَيْكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ.
فَقَالُوا:
– يَا رَسُوْلَ اللهِ، بَلْ نَرُدُّهُ
عَلَيْهِ، فَرَدُّوْهُ عَلَيْهِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِي بِالدَّلْوِ،
وَيَأْتِي الرَّجُلُ بِالشَّنَّةِ وَبِالإِدَاوَةِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَأْتِي
بِالحَبْلِ، حَتّى رَدُّوا عَلَيْهِ مَالَهُ بِأَسْرِهِ، لا يَفْقِدُ مِنْهُ شَيئًا،
ثُمَّ أَتَى إِلَى مَكَّةَ، فَأَدَّى إِلَى كُلِّ ذِي مَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ مَالَهُ.
ثُمَّ قَالَ:
– يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ
بَقِيَ لأَحَدٍ مِنْكُمْ عِنْدِي مَالٌ لَمْ يَأْخُذْهُ؟
قَالُوا:
– لا، فَجَزَاكَ اللهُ خَيْرًا،
فَقَدْ وَجَدْنَاكَ كَرِيْمًا.
قَالَ:
– فَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ
إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، وَاللهِ مَا مَنَعَنِي مِنَ
الإِسْلامِ إِلا تَخَوُّفَ أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أَرَدتُ أَنْ آكُلَ أَمْوَالَكَمْ،
فَلَمَّا أَدَّاهَا اللهُ إِلَيْكُمْ، وَفَرِغْتُ مِنْهَا، أَسْلَمْتُ.
ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى
رَسُوْلِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).