مصعب بن عمير السَّفِيْرُ الأَوَّلُ للاسلام (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)

 

مصعب بن عمير

مصعب بن عمير

بقلم محمد المطارقي

مَا أَرْوَعَ المَلابِسَ التِي يَرْتَدِيْهَا، وَمَا أَثْمَنَهَا! مَا أَجْمَلَ العِطْرَ الذِي يَفُوحُ مِنْهُ مَعَ كُلّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا! مَا أَجْمَلَهُ وَمَا أَرْوَعَهُ وَهُوَ يَسِيْرُ بَيْنَ فِتْيَانِ مَكَّةَ، يَحْمِلُ ابْتِسَامَةً عَذْبَةً وَوَجهًا حَسَنًا.

كَانَ يَحْمِلُ قَلْبًا طَرِيًّا أَخْضَرَ، يَهْفُو نَحْوَ الجَمَالِ وَالحُبِّ، وَعَقْلاً رَشِيْدًا يَفُوقُ أَضْعَافَ عُمْرِهِ، يَبْحَثُ بِهِ عَنِ الحَقِيْقَةِ.

وَعِنْدَمَا سَمِعَ عَنِ النّورِ الذِي خَرَجَ مِنْ بَيْتِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ سَعَى إِلَيْهِ، وَصَدَّقَهُ، وَآمَنَ بِدَعْوَتِهِ.

لَكِنَّ أُمَّهُ “خُنَاسَ بِنْتَ وَهْبٍ” كَانَتِ امْرَأةً شَدِيْدَةً إِلَى أَقْصَى دَرَجَةٍ، وَقَدْ أَخْبَرَهَا “عُثْمَانُ بنُ طَلْحَةَ”، أَنَّ ابْنَهَا
المُدَلَّلَ “مُصْعَبًا” يَدْخُلُ خِفْيَةً إِلَى دَارِ الأَرْقَمِ بنِ أَبِي الأَرْقَمِ، ثُمّ رَآهُ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ يُصَلِّى كَصَلاةِ مُحَمَّدٍ!

أَقْسَمَتِ الأُمُّ بِالآلِهَةِ أَنْ تَحْبِسَ وَلَدَهَا وَتُؤَدِّبَهُ بِطَرِيْقَتِهَا، كَيْ يَعُوْدَ إِلَى دِيْنِ آبَائِهِ. لَكِنَّ الفَتَى مُصْعَبًا الذِي أَحَسَّ بِحَلاوَةِ الإِيْمَانِ تَمَسُّ شَغَافَ قَلْبِهِ، يَرْفُضُ كُلَّ وَسَائِِلِ الإِغْرَاءِ، وَيَتَحَمَّلُ كَافَّةَ أَسَالِيْبِ التّعْذِيْبِ مِنْ أُمِّهِ؛ فَتَمْنَعُ عَنْهُ الطّعَامَ وَالشّرَابَ، حَتَّى جَفَّ عُوْدُهُ، وَذَبُلَ جَسَدُهُ، لَكِنَّهُ كَانَ يَصْبِرُ وَيَتَحَمَّلُ، وَهُوَ يَحْتَسِبُ الأَجْرَ عِنْدَ اللهِ.

وَهُوَ بِرَغْمِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الأَذَى وَالأَلَمِ، إِلا أَنَّ الابْتِسَامَةَ لَمْ تُفَارِقْ مُحَيَّاهُ، بَلْ أَنَّ النُّوْرَ الذِي مَلأَ قَلْبَهُ قَدْ أَضَاءَ وَجْهَهُ، وَزَادَهُ قُوَّةً وَصَلابَةً.

أَغْلَقَتْ عَلَيْهِ كُلَّ الأَبْوَابِ.. قَيَّدَتْهُ بِِسَلاسِلِ الحَدِيْدِ، لَكِنَّهُ اسْتَعَانَ بِاللهِ، وَاحْتَالَ لِنَفْسِهِ حَتَّى اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَحَرَّرَ مِنْ سِجْنِهِ، وَيَنْطَلِقَ مُهَاجِرًا مَعَ إِخْوَانِهِ مِنَ المُوحِّدِيْنَ إِلَى بِلادِ الحَبَشَةِ.

وَحِيْنَ رَآهُ النّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَرْتَدِي مَلابِسَهُ الخَشِنَةَ البَالِِيَةَ، ابْتَسَمَ ابتِسَامَةً تَسِيْلُ رِقَّةً وَحَنَانًا قَائِلاً:

“لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَمَا بِمَكَّةَ فَتًى أَنْعَم عِنْدَ أَبَوَيهِ مِنْهُ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ حُبًّا للهِ وَرَسُوْلِهِ.

وَيَعُودُ الصّحَابِيُّ الجَلِيْلُ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ مِنْ بِلادِ الحَبَشَةِ لِيَحْمِلَ أَعْظَمَ مُهِمَّةٍ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ؛ حَيْثُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَافِرَ إِلَى المَدِيْنَةِ لِيُعَلِّمَ الأَنْصَارَ الِفقْهَ، وَيُحَفِّظَهُم القُرْآنَ الكَرِيْمَ.
إِنَّهُ تَكْلِيْفٌ مِنْ سَيِّدِ البَشَرِ، لِيَكُوْنَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ هُوَ أَوَّلَ سَفِيْرٍ فِي تَارِيْخِ الإِسْلامِ، وَأَوَّلَ دَاعِيَةٍ يَدْعُو إِلَى دِيْنِ اللهِ.

نَعَمْ، كَانَ بِيَثْرِبَ اثْنَا عَشَرَ مُسْلِمًا، هُم الذِيْنَ بَايَعُوا النّبِيّ بَيْعَةَ العَقَبَةِ، وَمِنْ هُنَاكَ بَعَثُوا إِلَيْهِ مُعَاذَ بنَ عَفْرَاء، وَرَافِعَ بنَ مَالِكٍ؛ لِيَقُولُونَ لَهُ:

ـ ابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلاً مِنْ قِبَلِكَ؛ لِيَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى كِتَابِ اللهِ، فَإِنَّهُ إِنْ شَاءَ اللهُ سَوفَ يُتَّبَعُ.

وَيَتَطَلَّعُ النَّبِيُّ الكَرِيْمُ فِي وُجُوهِ الصّحَابَة لِتَشْمَلَ هَذَا الصَّحَابِيَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، لِيَحْمِلَ شَرَفَ المُهِمَّةِ.

وَيَمْتَثِلُ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ لِلأمْرِ، وَيَتَحَرَّكُ الصَّحَابِيُّ الجَرِيءُ إِلَى المَدِيْنَةِ، ثُمَّ يَنْزِلُ فِي بَنِي غَنمٍ عَلَى أَسْعَدِ بنِ زرَارَةَ، وَمِنْ هُنَاكَ رَاحَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى دِيْنِ اللهِ، وَبِجَانِبِهِ ابنُ زرَارَةَ- رَضِي اللهُ عَنْهُ- يَغْشِيَانِ القَبَائِلَ والبيُوتَ، وَالمَجَالِسَ.

كَانَتِ الكَلِمَاتُ تَخْرُجُ مِنْ فِيْهِ كَحَبَّاتِ اللُّؤلُؤِ، لِتُثِيْرَ القُلُوبَ، وَتُحَفِّزَ العُقُولَ، وَتَشْحَذَ الهِمَّةَ للدُّخُولِ فِي دِيْنِ اللهِ. وَكَانَ النَّاسُ يَلْتَفُّوْنَ مِنْ حَوْلِهِ؛ لِيَسْمَعُوا صَوْتَهُ الرّقْرَاقَ البَدِيْعَ، وَهُو يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، هَاتِفًا مِنْ أَعْمَاقِ قَلْبِهِ: “إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، لا إِلَهَ إِلا هُوَ”.

* * *

وَفِي مَوْسِمِ الحَجِّ مِنَ العَامِ التَّالِي لِبَيْعَةِ العَقَبَةِ، كَانَ مُسْلِمُوا المَدِيْنَةِ يَبْعَثُوْنَ إِلَى مَكَّةَ وَفْدًا لِيُمَثِّلَهُمْ وَيَنُوْبَ عَنْهُم، وَكَانَ عَدَدُهُم سَبْعِينَ رَجُلاً وَامْرَأتين.

وَلا يَزَالُ الصَّحَابِيُّ الجَلِيْلُ وَالدّاعِيَةُ الأَوَّلُ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الإِسْلامِ حَتَّى أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ سَادَةُ يَثْرِبَ، أَمْثَالُ: أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ، وَسَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، وَعَمْرو بنُ الجَمُوحُ، وَسَعْدُ بنُ عبَادَةَ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عَمَالِقَةِ الأَنْصَارِ.

وَبِإسْلامِ هَؤلاءِ الزّعَمَاءِ انْتَشَرَ الإِسْلامُ فِي كُلِّ أَرْجَاءِ المَدِيْنَةِ وَاسْتَقَرَّ.
ثُمّ اسْتَعَدَّتِ المَدِيْنَةُ بَعْدَ أَنْ تَهَيَّأتْ وَتَزَينَتْ لاسْتِقْبَالِ مَوْكِبِ النُّوْرِ الذِي يَقُودُهُ أَعْظَمُ الخَلْقِ، مُحَمّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ
(صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

وَتَمُرُّ الأَيَّامُ لِتَحْدُثَ غَزْوَةُ بَدْرٍ.. أَوَّلُ لِقَاءٍ مُسَلَّحٍ بَيْنَ جَبْهَةِ المُؤمِنِيْنَ وَجَبْهَةِ المُشْرِكِيْنْ، وَيَنْتَصِرُ المُسْلِمُونَ انْتِصَارًا سَاحِقًا، رَغْمَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَعِتَادِهِم.. يَنْتَصِرُونَ بِقُوَّةِ الإِيْمَانِ، بَعْدَ أَنْ ثَبَّتَهُم اللهُ- عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى الحَقِّ، وَأَيَّدَهُم بِنَصْرِهِ.

وَفِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، كَانََتْ كَلِمَةُ النِّهَايَةِ قَدِ انْسَدَلَتْ عَلَى بَطَلٍ صِنْدِيْدٍ مِنْ أَعْظَمِ الأَبْطَالِ، وَشَخْصِيَّةٍ مِنْ أَمْهَرِ الشّخْصِيّاتِ.. إِنَّهُ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) الذِي حَمَلَ رَايَةَ الجِهَادِ كَمَا حَمَلَ لِوَاءَ الدّعْوَةِ مِنْ قَبْلُ. وَتَتَجَلَّى شَجَاعَتُهُ فِي مُوَاجَهَةِ الطُّغَاةِ، وَلَمْ يَأْبَهْ لِمَا أَصَابَهُ مِنْ تَكَتُّلِ المُشْرِكِيْنَ عَلَيْهِ حَتَّى تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ، فَقَبَضَ عَلَى اللّوَاءِ بِعَضُدَيْهِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ. كَانَ يَضُمُّهُ إِلَى صَدْرِهِ وَهُوَ يَهْتفُ بِِأَعْلَى صَوْتِهِ: 
“وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ”.

وَيَأتِي عَدُوُّ اللهِ ابنُ قمئة عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ لِيَضْرِبَهُ ضَرْبَةً أَخِيْرَةً قَوِيَّةً بِالرُّمْحِ فَيَقَعَ وَيَسْقُطَ اللّوَاءُ، بَيْنَمَا رُوْحُهُ الطّاهِرَةُ كَانَتْ تُرَفْرِفُ فِي سَعَادَةٍ وَهِي تَصْعَدُ إِلَى جَنَّاتِ النّعِيْمِ.

فَرَضِي اللهُ عَنْ مُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ، وَعَنْ سَائِرِ الصّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ.

 

اقرأ سيرة هؤلاء الصحابة

عروة بن الزبير

عَمْرو بن العَاصِ

خَالِد بن الوَلِيْدِ

جَابِر بن عَبْدِ اللهِ الأَنصَارِيُّ

معَاذ بن جَبَلٍ

سَعْد بن معَاذٍ

مصْعَب بن عمَيْرٍٍ

قصة بنى الله إبراهيم

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال