سعد بن معاذ
بقلم محمد المطارقي
لا أَبَ لَكَ! انْطَلِقْ إَلَى هَذِيْنِ الرّجُلِيْنِ اللّذَيْنِ قَدْ أَتَيَا دَارَيْنَا لِيُسَفِّهَا ضُعَفَاءَنَا، فَازْجُرْهُمَا وَانْهَهُمَا عَنْ أَنْ يَأتِيَا دَارَيْنَا، فَإِنّهُ لَولا أَنّ َ”أَسْعَدَ بنَ زرَارَةَ” مِنِّي حَيْثُ مَا قَدْ عَلِمْتَ، كَفَيْتُكَ ذَلِكَ. هُوَ ابنُ خَالَتِي، وَلا أَجِدُ عَلَيْهِ مَقْدِمًا.
هُوَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، سَيِّدُ “بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ”، وَقَدْ وَصَلَ إِلَى مَسَامِعِهِ أَنَّ الفَتَى المَكِّيَّ “مُصْعَبَ بنَ عُمَيْرٍ”
يَغْشَى القَبَائِلَ، وَيَتَحَدَّثُ إِلَى النَّاسِ عَنْ دِيْنٍ جَدِيْدٍ.
لَمْ يَكُنْ يَحْفَلُ بِذَلِكَ، أَمَّا أَنْ يَصِلَ الأَمْرُ إِلَى هَذَا الحَدِّ، فَيَجْلِسُونَ مُطْمَئِنِّيْنَ إِلَى جِوَارِ حَائِطِهِ يَدْعُونَ النَّاسَ
إِلَى نَبْذِ الآلِهَةِ، لَمْ يَمْلِكْ أَمَامَ ذَلِكَ إِلا أَنْ يُحَرِّضَ سَيِّدًا آخَرَ، هُوَ “أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ”؛ لِيَطْرُدَ هَذَا المَكِّيَّ.
كَانَتِ الكَلِمَاتُ تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهِ حَادَّةًَ، قَاسِيَةً، مَمْلُؤةً بِالغَضَبِ والانْفِعَالِ، وَلَمْ يَكُن “ابنُ حُضَيرٍ” بِأَقَلَّ
مِنْهُ غَضَبًا.
فَحَمَلَ حَرْبَتَهُ، وَانْطَلَقَ عَلَى صَهْوَةِ جَوَادِهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهِمَا.
فِي هَذِهِ اللحْظَةِ كَانَ “أَسْعَدُ بنُ زرَارَةَ ” قَدْ رَآهُ مُقْبِلاً مِِنْ بَعِيدٍ، فَهَمَسَ فِي أُذُنِ مُصْعَبٍ قَائِلاً:
ـ جَاءَكَ سَيِّدُ قَوْمِهِ، فَاصْدُقِ اللهَ فِيْهِ.
هَزَّ مُصْعَبٌ رَأْسَهُ، وَقَالَ:
ـ يَجْلِسُ لنُكَلِّمَهُ وَنَدْعُوَهُ إِلَى اللهِ.
انْتَصَبَ أُسَيْدٌ وَاقِفًا، وَقَالَ لَهُمَا:
ـ مَا الذِي جَاءَ بِكُمَا إِلَى هُنَا تُسَفِّهَانِ ضُعَفَاءَنَا؟ اعْتَزِلانَا إِنْ كَانَتْ لَكُمَا بِأنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ.
تَوَرَّدَ وَجْهُ مُصْعَبٍ، وَكَانَ قَسِيْمًا وَسِيْمًا، أَشَارَ إِلَيْهِ فِي أَدَبٍ قَائِلاً:
ـ أَوَتَجْلِسُ فَتَسْمَع، فَإِنْ رَضيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ كَفَفْنَا عَنْكَ.
هَزَّ أُسَيْدٌ رَأْسَهُ عَلامَةً عَلَى المُوَافَقَةِ، وَهَبطَ مِنْ فَوْقِ صَهْوَةِ جَوَادِهِ، وَرَشَقَ الحَرْبَةَ فِي صَْدرِ الأَرْضِ، قَائِلاً:
ـ أَنْصَفْتَ.
رَاحَ مُصْعَبٌ يُحَدِّثُهُ عَنِ الإِسْلامِ، وَيَتْلُو عَلَيْهِ القُرآنَ الكَرِيْمَ، فَإِذَا بِأَسَارِيْرِ وَجْهِهِ تَنْبَسِطُ، وَأَحَسَّ بِنُوْرٍ يَسْرِي
بَيْنَ جَوَانِحِهِ، وَيَتَدَفَّقُ بِقُوَّةٍ فِي جَمِيْعِ أَوْصَالِهِ.
أَشْرَقَ وَجْهُهُ بِابْتِسَامَةٍ لامِعَةٍ قَائِلاً:
ـ مَا أَحْسَنَ هَذَا الكَلامَ وَمَا أَجْمَلَهُ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدتُم أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدّيْنِ؟
ابْتَسَمَ أَسْعَدُ بنُ زرَارَةَ وَقَالَ:
ـ تَغْتَسِلُ وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ.
وَقَالَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ:
ـ ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي.
قَامَ أُسَيْدٌ فَاغْتَسَلَ وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ، وَتَشَهَّدَ بشَهَادَةَ الحَقِّ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ.
قَالَ لَهُمَا:
ـ إِنَّ وَرَائِي رَجُلاً إِنِ أتّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَسَأُرْسِلُهُ إِلَيْكُمَا الآنَ، ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ وَانْطَلَقَ
إِلَيْهِ.
حِيْنَ نَظَرَ صَاحِبُهُ إِلَى وَجْهِهِ مُتَفَحِّصًا، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ:
ـ أَحْلِفُ بِاللهِ، لَقَدْ جَاءَكُم “أُسَيْدٌ” بِغَيْرِ الوَجْهِ الّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدَكُم، ثُمّ سَأَلَهُ:
ـ مَاذَا فَعَلْتَ؟
كَانَ أُسَيْدٌ يُرِيْدُ أََنْ يَدْعُوَ الرّجُلَ (سَيّدُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ) إِلَى هَذَا الدّينِ الجَدِيْدِ. لَقَدْ جَاءَ حَامِلاً بَيْنَ جَوَانِحِهِ
إِحْسَاسًا عَظِيْمًا بِالسّعَادَةِ وَالرّوْعَةِ، يُرِيْدُ أَنْ يَنْقُلَ هَذَا الإِحْسَاسَ إِلَى صَاحِبِهِ، لَكِنّهُ لا يَمْلِكُ القُدْرَةَ عَلَى المُبَاغَتَةِ.
لا بُدَّ أَنْ يَتَمَهَّلَ مَعَهُ بَعْضَ الشَّيءِ، حَتَّى يَضْمَنَ لَهُ الدّخُولَ فِي جَنَّةِ الإِسْلامِ. عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ نَحْوَ الفَتَى المَكِّيِّ مُصْعَبٍ؛ فَهُوَ يَمْتَلِكُ القُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ أُسَيْدٌ:
ـ كَلَّمْتُ الرّجُلَيْنِ، فَوَاللهِ مَا رَأَيْتُ بِهِمَا بَأْسًا، وَقَدْ نَهَيْتُهُمَا فَقَالا: “نَفْعَلُ مَا أَحْبَبْتَ”.
ثُمَّ صَمَتَ أُسَيْدٌ بَعْضَ الشَّيءِ، وَقَدْ حَاوَلَ أَنْ يَكْتُمَ ابتِسَامَةً تُحَاوِلُ أَنْ تَطْفُوَ عَلَى وَجْهِهِ.
قَالَ:
ـ وَقَدْ حَدَّثْتُ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى أَسْعَد بنِ زرَارَةَ لِيَقْتُلُوهُ؛ ذَلِكَ أَنَّهُم قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ ابنُ خَالَتِكَ،
لا لِشَيءٍ إِلا لِيَنْقُضُوا العَهْدَ وَالمِيْثَاقَ الذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ.
هَبَّ الرَّجُلُ غَاضِبًا، وَأَمْسَكَ الحَرْبَةَ قَائِلاً:
ـ وَاللهِ مَا أَرَاكَ أَغْنَيْتَ شَيْئًا.
انْطَلَقَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَجْلِسِ الفَتَى المَكِّيِّ وَصَاحِبِهِ اليَثْرِبِيِّ، وَهُنَاكَ رَاحَ يَكِيْلُ لَهُمَا الشَّتَائِمَ
وَاللّعَنَاتِ، قَائِلاً لابْنِ خَالَتِهِ:
ـ وَاللهِ لَوْلا مَا بَيْنِي وَبَينَكَ مِنَ القَرَابَةِ مَا رُمْتَ هَذَا مِنِّي. أَتَغْشَانَا فِي دِيَارِنَا بِمَا نَكْرَهُ؟!
فِي هَذِِهِ اللحْظَةِ، هَمَسَ أَسْعَدُ بنُ زرَارَةَ لِمُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ قَائِلاً:
ـ أَيْ مُصْعَبٌ، جَاءَكَ واللهِ سَيِّدٌ مِنْ وَرَاءِهِ قَوْمُهُ، إِنْ يَتّبِعكَ، لا يَتَخَلَّفْ عَنْكَ مِنْهُم اثْنَانِ.
ابْتَسَمَ مُصْعَبٌ ابْتِسَامَةً حَانِيَةً جَمِيْلَةً نَابِعَةً مِنْ أَعْمَاقِ قَلْبِهِ الصّافِي، وَقَالَ:
أَوَتَقْعُدُ فَتَسْمَعْ؟ فَإِنْ رَضِيْتَ أَمْرًا وَرَغِبْتَ فِيْهِ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ عَزَلْنَا عَنْكَ مَا تَكْرَهُ.
قَالَ الرّجُلُ:
ـ انْصَفْتَ.
ثَمَّ وَضَعَ الحَرْبَةَ وَجَلَسَ.
كَانَ النُّورُ يَنْبَثِقُ مِنْ بَيْنِ شَفَتَي مُصْعَبٍ، وَهُوَ يُحَدِّثُهُ عَنْ دِيْنِ اللهِ، وَيَتْلُو عَلَيْهِ القُرْآنَ الكَرِيْمَ، حَتَّى ظَهَرَ الإِسْلامُ عَلَى وَجْهِ الرّجُلِ.
هَا هُوَ قَدْ أَسْلَمَ ثُمَّ أَسْرَعَ إِلَى قَوْمِهِ يَدْعُوْهُمْ قَائِلاً:
ـ يَا بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيْكُم؟
قَالُوا:
ـ سَيِّدُنَا، وَأَوْصَلُنَا، وَأَفْضَلُنَا رَأيًا، وَأَيْمَنُنَا نَقِيْبَةً.
قََالَ:
ـ فَإِنَّ كَلامَ رِجَالِكُم وَنِسَائِكُم عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤمِنُوا بِاللهِ وَبِرَسُوْلِهِ.
فَأَسْلَمُوا جَمِيْعًا.
فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ سَائِرِ الصّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ.