والآن أترككم مع القصة
شباب النبي
مَاتَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَصَارَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى كَفَالَةِ عَمِّهِ أَبِي طَالَبٍ سَيِّدِ مَكَّةَ وَكَبِيرِهَا.
نَعَمْ، كَانَ أَبُو طَالِبٍ فَقِيرًا.. فَقِيرًا جِدًّا، وَعِنْدَهُ أَوْلادٌ كَثِيرُونَ، وَبِالرَّغْمِ مِنْ ذَلِكَ فَقَدِ احْتَضَنَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَأَحْسَنَ كَفَالَتَهُ وَرِعَايَتِهِ.
أَمَّا زَوْجَتُهُ " فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدٍ " فَكَانَتْ غَايَةً فِى الرِّقَّةِ وَالْحَنَانِ وَلَمْ يَنْسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا هَذَا الْمَعْرُوفَ أَبَدًا، فَكَانَتْ مَحَلَّ رِعَايَتَهُ حِينَ كَبُرَتْ سِنُّهَا وَأَدْرَكَتِ الإِسْلامَ.
فَلَمَّا مَاتَتْ تَأَثَّرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَجْلِهَا، وَقَالَ بِحُزْنٍ: "مَاتَتِ الْيَوْمَ أُمِّي". حَتَّى أَنَّهُ كَفَّنَهَا بِقَمِيصِهِ الشَّرِيفِ، وَقَرَأَ فِي قَبْرِهَا الْقُرْآنَ.
رَأَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم رِقَّةَ الْحَالِ، وَكَثْرَةَ الْعِيَالِ.. وَالظُّرُوفَ الصَّعْبَةَ الَّتِي يَعِيشُهَا عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، فَأَخَذَ قَرَارًا بِإِعَانَتِهِ، وَكَانَ الشًّيْءُ الَّذِي يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ بِهِ وَهُوَ فِي تِلْكَ السِّنِّ الصَّغِيرَةِ هُوَ أَنْ يَعْمَلَ فِي " رَعْيِ الْغَنَمِ ".. إِنَّهُ عَمَلٌ يَتَطَلَّبُ الصَّبْرَ الشَّدِيدَ، وَيُدَرِّبُ الإِنْسَانَ عَلَى الْيَقَظَةِ، وَالأَمَانَةِ وَالتَّوَاضُعِ، ثُمَّ هُوَ يَدْفَعُهُ لِلتَّأَمُّلِ فِي هَذَا الْكَوْنِ الْفَسِيحِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ.
وَهَكَذَا كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ فِى رَعْىِ الْغَنَمِ، مِثْلُهُ مِثْلُ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ سَبَقُوهُ.. فَقَدْ عَمِلُوا جَمِيعًا فِى تِلْكَ الْمِهْنَةِ الْكَرِيمَةِ، الْمُتَوَاضِعَةِ.
الرسول والراهب
عَرَضَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَمِّهِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ فِى رِحْلَةِ التِّجَارَةِ الَّتِى يَذْهَبُونَ فِيهَا إِلَى الشَّامِ، كَانَ لا يَزَالُ فِى التَّاسِعَةِ مِنْ عُمْرِهِ، لَكِنَّهُ كَانَ شَغُوفًا بِهَذِهِ الرِّحْلَةِ.
وَوَافَقَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَاصْطَحَبَهُ مَعَهُ فِى أَوَّلِ رِحْلَةٍ خَرَجَتْ، وَفِى الطَّرِيقِ ـ قُرْبَ مَدِينَةِ بُصْرَى ـ نَزَلُوا بِالْقُرْبِ مِنْ رَاهِبٍ اسْمُهُ بُحَيْرَى، فَلَمَّا رَأَى الْقَافِلَةَ وَفِيهَا النَّبِىُّ فَرِحَ جِدًّا وَقَالَ: هَذَا هُوَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الًّذِى قَرَأْتُ عَنْهُ فِى الْكُتُبِ.
وَأَسْرَعَ بُحَيْرَى إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الطَّعَامِ.
كَانَ بُحَيْرَى يُرِيدُ أَنْ يَتَأَكَّدَ أَكْثَرَ، فَلَمَّا حَضَرُوا الطَّعَامَ قَالَ لَهُمْ: هَلْ تَرَكْتُمْ أَحَدًا مِنْكُمْ لَمْ يَحْضُرْ؟
قَالُوا: نَعَمْ، إِنَّهُ مُحَمَّدٌ، أَحْدَثَ الْقَوْمِ سِنًّا، تَرَكْنَاهُ فِى رِحَالِنَا. قَالَ: لابُدَّ أَنْ يَحْضُرَ. فَلَمَّا حَضَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم ، رَاحَ بُحَيْرَى يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَتَفَرَّسُ فِى وَجْهِهِ حَتَّى تَأَكَّدَ أَنَّ هَذَا الصَّبِىَّ الَّذِى أَمَامَهُ هُوَ نَفْسُهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الْخَاتَمُ، وَهُنَا هَمَسَ بُحَيْرَى لأَبِى طَالِبٍ قَائِلاً: إِنَّ لابْنِ أَخِيكَ هَذَا شَأْنًا عَظِيمًا، وَاحْذَرْ عَلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِ.
عَادَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى مَكَّةَ وَقَدِ ازْدَادَ حُبَّهُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ، وَازْدَادَ حِرْصًا عَلَى سَلامَتِهِ.
شجاعة النبي
كَانَ الْعَرَبُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ.. وَيُعَظِّمُونَ أَيْضًا الشُّهُورَ الْحُرُمَ؛ فَلا يَتَقَاتَلُونَ فِى الْبَيْتِ الْحَرَامِ.. وَلا فِى الشُّهُورِ الْحُرُمِ.. وَلَكِنْ حَدَثَتْ حَرْبُ الْفُجَّارِ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ كِنَانَةَ وَبَيْنَ قَيْسِ.
وَكَانَ قَائِدُ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ حَرْبَ بْنَ أُمَيَّةَ لِمَكَانَتِهِ فِيهِمْ سِنًّا وَشَرَفًا، وَكَانَ النَّصْرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِقَيْسٍ عَلَى كِنَانَةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَسَطِ النَّهَارِ كَانَ النَّصْرُ لِكِنَانَةَ عَلَى قَيْسٍ. وَسُمِّيَتْ بِحَرْبِ الْفُجَّارِ لانْتِهَاكِ حُرُمَاتِ الْحَرَمِ وَالأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِيهَا، وَقَدْ شَارَكَ فِيهَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَعُمْرُهُ لَمْ يَتَجَاوَزْ الْخَامِسَةَ عَشْرَ بَعْدُ.. كَانَ يُسَاعِدُ أَعْمَامَهُ، وَكَانَ يُجَهِّزُ لَهُمُ النِّبَلَ لِلرَّمْيِ .
وَفي تلكَ الأثناءِ وَقَعَ حِلْفُ الْفُضُولِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، تَدَاعَتْ إِلَيْهِ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ بَنُو هَاشِمَ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَأَسَدُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى،وَزَهْرَةُ بْنُ كِلابٍ، وَتَيْمُ بْنُ مُرَّةَ، فَاجْتَمَعُوا فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَدْعَانَ التَّيْمِيِّ لِسِنِّهِ وَشَرَفِهِ، فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَنْ لا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا مِنْ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ إِلاَّ قَامُوا مَعَهُ، وَكَانُوا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ مَظْلَمَتُهُ، وَشَهِدَ هَذَا الْحِلْفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالرِّسَالَةِ: لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ جَدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمُرَ النِّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلامِ لأَجَبْتُ.
المعصوم
حَفِظَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَبِيَّهُ مِنَ الْفُحْشِ وَالأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ الَّتِى تُنَفِّرُ مِنْهَا أَصْحَابَ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ، الْعَفِيفَةِ..
فَكَانَ يَنْأَى بِنَفْسِهِ عَنِ اللَّهْوِ، وَكَانَ يَبْغَضُ عِبَادَةَ الأَصْنَامِ جِدًّا، وَلا يُقْسِمُ بِهَا كَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ.
وَقَدْ حَاوَلَ وَهُوَ يَعْمَلُ فِى رَعْىِ الْغَنَمِ أَنْ يَتْرُكَ الأَغْنَامَ لِغُلامٍ يَرْعَى مَعَهُ بِأَعْلَى مَكَّةَ قَائِلاً لَهُ: لَوْ أَبْصَرْتَ لِى غَنَمِى حَتَّى أَدْخُلَ مَكَّةَ وَأَسْمُرَ كَمَا يَسْمُرُ الشَّبَابُ عُرْسَ فُلانٍ بِفُلانَةٍ.
فَقَال َالْغُلامُ: افْعَلْ.
ذَهَبَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ أَوَّلِ دَارٍ بِمَكَّةَ، جَلَسَ قَلِيلاً فَضَرَبَ اللهُ عَلَى أُذُنِهِ فَنَامَ، فَمَا أَيْقَظَهُ إِلاَّ حَرُّ الشَّمْسِ فَعَادَ إِلَى صَاحِبِهِ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا حَدَثَ.
ثُمَّ تَكَرَّرَ ذَلِكَ الأَمْرُ مَرَّةً أُخْرَى، فَأَصَابَهُ مِثْلُ مَا أَصَابَهُ أَوَّلَ لَيْلَةٍ فَمَا هَمَّ بِسُوءٍ بَعْدَ ذَلِكَ قَطُّ..
حكمة الرسول
لَمَّا بَلَغَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الْخَامِسَةَ وَالثَّلاثِينَ أَعَادَتْ قُرَيْشُ بِنَاءَ الْكَعْبَةَ.. وَاشْتَرَطُوا أَلاَّ يَتِمَّ الْبِنَاءُ إِلاَّ مِنْ مَالٍ طَيِّبٍ، يَكُونُ مِنَ الْحَلالِ الْخَالِصِ وَتَمَّ بِنَاءُ الْكَعْبَةَ مَرَّةً ثَانِيَةً.. وَلَمْ يَتَبَقَّ غَيْرُ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ..
قَالُوا جَمِيعًا: مَنْ يَنَالُ شَرَفَ حَمْلِ هَذَا الْحَجَرِ الْكَرِيمِ وَوَضْعِهِ فِى مَكَانِهِ.. وَاخْتَلَفُوا جَمِيعًا.. كُلُّ قَبِيلَةٍ تَقُولُ: نَحْنُ الأَحَقُّ بِحَمْلِ هَذَا الْحَجَرِ.. إِنَّهُ الشَّرَفُ الَّذِى نَتَمَنَّاهُ.. وَحَدَثَتْ مَشَادَّةٌ حَادَّةٌ بَيْنَهُمْ..كَادَتْ تَصِلُ إِلَى مَعْرَكَةٍ رَهِيبَةٍ.
لَكِنَّ أَحَدَ الْعُقَلاءِ - وَكَانَ يُدْعَى أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ الْمُغِيرَةَ - قَالَ لَهُمْ: وَلِمَ الاخْتِلافُ يَا سَادَةُ فَلْنَتَحَاكَمْ. قَالُوا: نَتَحَاكَمُ إِلَى مَنْ؟
قَالَ: لِنَنْظُرْ، أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْنَا مِنْ هَذَا الْمَكَانِ يَكُونُ هُوَ الْحَكَمُ بَيْنَنَا.. قَالُوا: نَعَمْ.. أَحْسَنْتَ.
وَفِى لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ هَتَفُوا جَمِيعًا فِى فَرَحٍ: مَنْ..؟
الصَّادِقُ الأَمِينُ.. ارْتَضَيْنَاهُ حَكَمًا..
طَلَبَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم رِدَاءً فَوُضِعَ الْحَجَرُ وَسَطَهُ، وَطَلَبَ مِنْ رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلَ الْمُتَنَازِعِينَ أَنْ يُمْسِكُوا جَمِيعًا بِأَطْرَافِ الرِّدَاءِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْفَعُوهُ، حَتَّى إِذَا أَوْصَلُوهُ إِلَى مَوْضِعِهِ أَخَذَهُ بِيَدِهِ، فَوَضَعَهُ فِي مَكَانِهِ، وَهَذَا حَلٌّ حَكِيمٌ رَضِيَ بِهِ الْقَوْمُ.
الرسول تاجرا
كَانَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ مِنْ سَيِّدَاتِ مَكَّةَ وَأَشْرَافِهَا.. وَكَانَتْ تَاجِرَةً عِنْدَهَا مَالٌ كَثِيرٌ.. فَلَمَّا سَمِعَتْ عَنْ مُحَمَّدٍ بْنِ عَبْدِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَانَتِهِ، طَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يَذْهَبَ لِيُتَاجِرَ لَهَا.
وَذَهَبَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ غُلامٍ لَهَا يُسَمَّى "مَيْسَرَةُ"، فَلَمَّا عَادَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ رِحْلَتِهِ وَقَدْ عَمِلَ بِكُلِّ أَمَانَةٍ وَإِخْلاصٍ قَدَّمَ إِلَى السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ مَكَاسِبَ كَثِيرَةً جِدًّا.. وَقَدْ حَكَى لَهَا الْغُلامُ مَيْسَرَةُ عَنْ مَوَاقِفَ كَثِيرَةٍ رَائِعَةٍ وَجَمِيلَةٍ حَدَثَتْ أَثْنَاءَ الرِّحْلَةِ.. وَلَمَّا سَمِعَتْهَا السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ ازْدَادَ احْتِرَامُهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .