الرحمة خلق جميل.. الرحمة هي العطف والإحسان واللين على الناس وخاصة المحتاجين الفقراء والمحرومين منهم، وكانت الرحمة من أبرز أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا وصفه الله في القرآن الكريم بقوله:
{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]. وقال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعاملين} [الأنبياء: 107].
(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [مسلم].
(لا يرحم اللهُ من لا يرحم الناس) [متفق عليه].
والآن تعالوا لنقرأ هَذ المَجْمُوعَةٌ مِنَ الْقِصَصِ وَالْحِكَايَاتِ الشَّيِّقَةِ، الْهَدَفُ مِنْهَا غَرْسُ حُبِّ خُلُقِ الرحمة فِى نُفُوسِ الأَطْفَالِ.
الْقَلْبُ الْكَبِيرُ
رَحْمَةُ اللهِ – سُبْحَانَهُ – وَاسِعَةٌ، فَهُوَ الْقَائِلُ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [سُورَةُ الأَعْرَافِ:156]، وَلِذَا جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى مَعَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاةِ دَعَا رَبَّهُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِى وَمُحَمَّدًا وَلا تُشْرِكْ فِى رَحْمَتِنَا أَحَدًا. فَأَرَادَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ وَاسِعَةً، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللهَ خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَأَنْزَلَ رَحْمَةً يَتَعَاطَفُ بِهَا الْخَلْقُ جِنُّهَا وَإِنْسُهَا وَبَهَائِمُهَا، وَعِنْدَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ.
حِرَاسَةُ الرَّحْمَةِ
بَيَّنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللهَ لا يَرْحَمُ مَنْ لا يَرْحَمُ خَلْقَ اللهِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ). يُحْكَى أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ طَلَبَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ لِحِرَاسَةِ جَمَاعَةٍ مِنَ التُّجَّارِ، وَفِى الطَّرِيقِ سَمِعَ صَوْتَ صَبِيٍّ يَبْكِى، فَعَلِمَ أَنَّ أُمَّهُ أَفْطَمَتْهُ لِكَىْ تَأْخُذَ رَاتِبًا مِنَ الدَّوْلَةِ، لأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لا يَفْرِضُ رَاتِبًا مِنَ الْمَالِ إِلاَّ لِلطِّفْلِ الَّذِى فُطِمَ، فَحَزِنَ عُمَرُ، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ أَلاَّ يُعَجِّلُوا فِطَامَ الصَّغِيرِ، وَأَعْطَى لِكُلِّ مَوْلُودٍ رَاتِبًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
تَقْبِيلُ الأَطْفَالِ
الرَّحْمَةُ مِنْ أَبْرَزِ أَخْلاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِذَلِكَ، فَقَالَ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[سُورَةُ التَّوْبَةِ: 128]. يُحْكَى أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ يُدَاعِبُ الْحَسَنَ وَيُقَبِّلُهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَحَدُ أَصْحَابِهِ، فَتَعَجَّبَ مِمَّا رَأَى وَقَالَ: أَيُدَاعِبُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَطْفَالَ!! إِنَّ لِي عَشْرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا. فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: “مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ”.
الْيَمَامَةُ وَالْفَرْخَانِ
يَحُثُّ الإِسْلامُ أَتْبَاعَهُ عَلَى الرَّحْمَةِ حَتَّى مَعَ الْحَيَوَانِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ. (يَقْصِدُ أَنَّ فِي سَقْيِ كُلِّ كَائِنٍ حَيٍّ ثَوَابًا) [الْبُخَارِيُّ]. رَأَى الصَّحَابَةُ يَوْمًا يَمَامَةً مَعَهَا فَرْخَانِ صَغِيرَانِ، فَأَسْرَعُوا نَحْوَ الْفَرْخَيْنِ وَأَخَذُوهُمَا، فَأَخَذَتِ الْيَمَامَةُ تُرَفْرِفُ فَوْقَ الصَّحَابَةِ كَأَنَّهَا تَسْتَعْطِفُهُمْ كَيْ يُعْطُوهَا فَرْخَيْهَا، وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَى الْيَمَامَةَ تُرَفْرِفُ حَوْلَ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ: مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا، رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا. فَأَطْلَقَ الصَّحَابَةُ الْفَرْخَيْنِ لأُمِّهِمَا فَعَادَتْ بِهِمَا إِلَى الْعُشِّ فَرِحَةً مَسْرُورَةً.
الرُّحَمَاءُ
وَصَفَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَنْهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[سُورَةُ الأَنْبِيَاءِ: 107] .ذَاتَ يَوْمٍ أَرْسَلَتْ إِحْدَى بَنَاتِ رَسُولِ اللهِ إِلَيْهِ تُخْبِرْهُ أَنَّ ابْنًا لَهَا قَدْ مَاتَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إَنَّ للهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى. ثُمَّ ذَهَبَ النَّبِىُّ إِلَيْهَا وَكَانَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ وَرَأَى ابْنَهَا الْمَيِّتَ بَكَى، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هَذَا؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ.
الْغُلامُ وَالسُّوطُ
أَخْبَرَ النَّبِىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَرْحَمُ كُلَّ مَنْ يَرْحَمُ النَّاسَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ارْحَمْ مَنْ فِي الأَرْضِ، يَرْحَمْكَ مَنْ فِي السَّمَاءِ). ذَاتَ يَوْمٍ أَرَادَ الصَّحَابِىُّ أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ أَنْ يَضْرِبَ خَادِمًا لَهُ يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّبَهُ، فَلَمَّا هَمَّ بِضَرْبِ الْخَادِمِ سَمِعَ النَّبِىَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلامِ. فَاعْتَذَرَ أَبُو مَسْعُودٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: لا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا، وَهُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ.
الرَّحْمَةُ بِالدَّوَابِّ
حَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغِلْظَةِ وَالْقَسْوَةِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِيٍّ). ذَاتَ يَوْمٍ رَأَى رَسُولُ اللهِ رِجَالاً جَالِسِينَ عَلَى ظُهُورِ دَوَابِّهِمْ يَتَحَدَّثُونَ كَأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا الدَّوَابَّ كَرَاسِى يَجْلِسُونَ عَلَيْهَا، فَغَضِبَ النَّبِىُّ وَقَالَ لَهُمْ: ارْكَبُوهَا سَالِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً، وَلا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِىَ لأَحَادِيثِكُمْ فِى الطُّرُقِ وَالأَسْوَاقِ، فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ هِىَ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا وَأَكْثَرُ ذِكْرًا للهِ مِنْهُ.
الرَّحْمَةُ بِالْيَتَامَى
مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ يَرْحَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَعْطِفُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ؛ مِثْلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى). وَلِذَلِكَ لَمَّا اسْتُشْهِدَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبَ ذَهَبَ النَّبِىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِهِ وَأَخْبَرَ أَهْلَهُ بِاسْتِشْهَادِهِ، فَبَكَتْ زَوْجَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَبَكَى أَبْنَاؤُهُ عَبْدُ اللهِ وَعَوْنُ وَمُحَمَّدُ، فَأَخَذَ النَّبِىُّ أَبْنَاءَ جَعْفَرَ إِلَى صَدْرِهِ وَقَبَّلَهُمْ وَبَكَى لِبُكَائِهِمْ، وَكَانَ النَّبِىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَرَدَّدُ عَلَيْهِمْ وَيَمْسَحُ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَيَدْعُو لَهُمْ قَائِلاً: اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِى أَهْلِهِ وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللهِ فِى صَفْقَةِ يَمِينِهِ (تِجَارَتِهِ).
الْجَمَلُ الْبَاكِى
أَخْبَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتِ النَّارَ مِنْ أَجْلِ قَسْوَتِهَا وَغِلْظَتِهَا مَعَ قِطَّةٍ، وَلِذَلِكَ فِى يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ دَخَلَ النَّبِىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيقَةً فَوَجَدَ جَمَلاً يَبْكِى، فَلَمَّا اقْتَرَبَ النَّبِىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجَمَلِ وَمَسَحَ بِيَدَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ عَلَى سِنَامِهِ اطْمَأَنَّ الْجَمَلُ وَتَوَقَّفَ عَنِ الْبُكَاءِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِىُّ لِصَاحِبِ الْجَمَلِ: أَفَلا تَتَّقِى اللهَ فِى هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِى مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَّىَّ أَنَّكَ تُجِيعَهُ وَتُتْعِبُهُ فِى الْعَمَلِ. أَىْ تُحَمِّلُهُ مَا لا يُطِيقُ وَلا تُعْطِهِ حَقَّهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالرَّاحَةِ.
الطَّائِرُ الأَسِيرُ
مِنْ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ الرَّحْمَةُ بِالْحَيَوَانِ وَالرِّفْقُ بِهِ، رَأَى عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرٍ بَعْضَ الأَوْلادِ قَدْ رَبَطُوا طَائِرًا كَهَدَفٍ لِلرِّمَايَةِ، ثُمَّ قَامُوا يَرْمُونَهُ بِسِهَامِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرٍ فَرُّوا هَارِبِينَ، فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرٍ وَحَلَّ قَيْدَ الطَّائِرِ وَفَكَّ أَسْرَهُ وَأَطْلَقَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا، إِنَّ رَسُولَ اللهِ لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا (هَدَفًا).
رَحْمَةٌ وَإِنْصَافٌ
الْمُسْلِمُ رَحِيمٌ فِي كُلِّ أُمُورِهِ؛ فَيَأْخُذُ بِيَدِ كُلِّ مَنْ يَحْتَاجُ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ. رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ذَاتَ يَوْمٍ شَيْخًا يَطْلُبُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، وَعَلِمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ، فَرَقَّ لَهُ قَلْبُهُ وَشَعَرَ بِالرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ نَحْوَهُ، ثُمَّ أَمَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُصْرَفَ لَهُ مَبْلَغًا مِنَ الْمَالِ يَكْفِى حَاجَتَهُ كُلَّ شَهْرٍ ، حَتَّى لا يَسْأَلَ النَّاسِ.
الطِّفْلُ الْبَاكِى
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلائِقُ). وَلِذَلِكَ لَمَّا خَرَجَتْ هَاجَرُ وَابْنُهَا الرَّضِيعُ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى الصَّحْرَاءِ وَنَفَدَ مَا كَانَ مَعَهَا مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ظَلَّ الطِّفْلُ الرَّضِيعُ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَبْكِى مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَظَلَّتْ هَاجَرُ تَصْعَدُ إِلَى جَبَلِ الصَّفَا مَرَّةً وَإِلَى جَبَلِ الْمَرْوَةِ مَرَّةً أُخْرَى تَبْحَثُ عَنْ أَحَدٍ يُسَاعِدُهَا، وَهُنَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمَا رَحْمَتَهُ وَفَجَّرَ مَاءَ زَمْزَمَ عِنْدَ قَدَمِ إِسْمَاعِيلَ، وَجَاءَتِ الأُمُّ فَسَقَتْهُ حَتَّى ارْتَوَى ثُمَّ شَرِبَتْ وَحَمَدَتْ رَبَّهَا.
السُّؤَالُ الصَّعْبُ
الْمُسْلِمُ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنِ الْقَسْوَةِ، وَلَيْسَ مِنْ أَخْلاقِهِ أَنْ يَرَى الْجَوْعَى وَلا يُطْعِمُهُمْ، أَوْ يَرَى الْمَلْهُوفَ وَلا يُغِيثُهُ، وَلِذَا جَلَسَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحْمَهُ اللهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا، فَسَأَلَتْهُ زَوْجَتُهُ عَنْ سَبَبِ بُكَائِهِ، فَقَالَ: إِنِّى تَقَلَّدْتُ أَمْرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، فَتَفَكَّرْتُ فِى الْفَقِيرِ الْجَائِعِ وَالْمَرِيضِ الضَّائِعِ وَالْعَارِى الْمَجْهُودِ وَالْمَظْلُومِ الْمَقْهُورِ وَالْغَرِيبِ الْمَأْسُورِ وَالْكَبِيرِ وَذِى الْعِيَالِ، فَعَلِمْتُ أَنَّ رَبِّى سَيَسْأَلُنِى عَنْهُمْ، وَأَنَّ خَصْمِى دُونَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَشِيتُ أَلاَّ تَثْبُتُ لِى حُجَّةٌ عِنْدَ خُصُومَتِهِ، فَرَحِمْتُ نَفْسِى فَبَكَيْتُ.